المسؤولية المشتركة في السوق العالمية وحماية المستهلك

محمود إبراهيم النقيب *

يشير مفهوم اقتصاد السوق العالمي في ظل العولمة إلى أن جميع الاقتصاديات الوطنية والإقليمية قد اندمجت وتشابكت مع بعضها البعض؛ لتشكل اقتصاد عالمي موحد خاضع لمبدأ التنافس الحر، بفعل حزمة من السياسات والآليات التي تم اعتمادها كوسيلة كونية إلزامية في عملية التبادل التجاري للمنتجات والخدمات على الصعيد الدولي، في ظل سوق عالمية مفتوحة، واسعة النطاق متعددة المنتجات، تعتمد على التكنولوجيا والمعلومات كأيدولوجية لتحقيق السيادة العالمية.

وعلى الرغم من بعض الإيجابيات التي جاءت بها العولمة الاقتصادية منها تعدد الخيارات من المنتجات والخدمات أمام المستهلك وتحسن جودتها، إلا أنه بفعل قوى العولمة الاقتصادية المجردة من العواطف، تضاءل دور الدولة القومية وأنظمتها الوطنية، وتأثرت كثيراً من الصناعات الوطنية والخدمات في الدول النامية، التي لم تتمكن من المنافسة؛ نظراً لانخفاض كفاءتها، بالإضافة إلى ارتفاع أسعار بعض المدخلات والمواد الخام للمنتجات الزراعية والغذائية، والتي تؤثر سلباً على المستهلكين.

وتظل تلبية حاجات المستهلك وحمايته في عالم اليوم تتأثر بالمتغيرات السريعة التي تشهدها مختلف المجالات، وعلى الرغم من أن هذه المتغيرات أثّرت بشكل كبير على منظومة حماية المستهلك بشكلٍ عام، إلا أنها كانت أكثر تأثيراً عليه باعتباره يمثل الطرف الأضعف في هذه المعادلة؛ لذلك أصبحت حمايته أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى سواءً على المستوى المحلي أو الدولي، في ضوء التقارب واندماج الاقتصاديات الوطنية في الاقتصاد العالمي، وأصبحت قضية حماية المستهلك تدخل في إطار المسؤولية الاجتماعية وأخلاقيات الأعمال للشركات والمؤسسات.

ولعل أبرز التطورات المعاصرة المرتبطة بتوسع حجم السوق العالمية، تتمثل بتطور وسائل الاتصال وتكنولوجيا المعلومات واستخدام وسائل الإنتاج الحديثة، والتي أدت إلى ديناميكية سريعة في عملية انتقال المنتجات والخدمات واحتدام المنافسة في ظل رفع الحواجز الجمركية، التي كانت مفروضة قبل إنشاء منظمة التجارة العالمية (WTO)، وظهرت بعض الممارسات التجارية غير العادلة، وزيادة الأسعار والمؤثرات النفسية؛ التي تعمل على جذب المستهلك والتأثير على سلوكه، من خلال الآلة الإعلامية الضخمة التي تلجأ إلى استغلالها الشركات التجارية؛ لتحقيق مكاسب ولو على حساب خسائر كبيرة يتكبدها المستهلك، في ظل نقص البيانات والمعلومات عن السلع والخدمات وتدني الوعي بالجوانب القانونية والتعاقدات في إطار السوق الدولية.

ولا يفوتنا الإشارة إلى مدى تأثر خيارات كل من المستهلكين والمنتجين في التعامل مع التطورات الجديدة، والواقع والأثر البالغ الذي فرضته جائحة كوفيد 19 المستجد على الذاكرة الحية لجميع شعوب العالم عموماً، وعلى سلسلة التوريدات والتغيرات في الطلب والاتجاهات في السوق العالمية، وزيادة الطلب لمنتجات بعينها خصوصاً، ومثّلت هذه الجائحة أكبر تهديد للاقتصاد والأسواق في جميع أنحاء العالم.

وعلى اعتبار أن منظومة حماية المستهلك أطرافها متعددة، تتمثل بالمستهلك والمنتج والمزود والأجهزة الرقابية والفنية الرسمية، فإن ذلك يقتضي التأكيد على أهمية المسؤولية المشتركة لجميع أطراف العملية التبادلية بشكل تضامني، ويجب أن تعمل مجتمعة على تحقيق مجموعة الأهداف المشتركة، المتمثلة بجودة وسلامة السلع والمنتجات المقدمة للمستهلك، فضلاً عن توعيته وإرشاده إلى كل ما يجعله مستهلكاً حصيفاً، يعي كل ما يُعرض عليه من المنتجات والخدمات، وفيما يلي يمكن قراءة المسئوليات التضامنية والمتعددة والمشتركة تجاه المستهلك في ظل مضامين العولمة وواقع السوق العالمية على النحو الآتي:

مسئولية الأجهزة التشريعية والفنية:

تعدُّ الأجهزة التشريعية والفنية الرسمية من أهم الأجهزة التي يقع عليها عبء حماية المستهلك، كما تلعب دوراً هاماً في عملية إصدار التشريعات اللازمة؛ التي توفِّر ضمانات حقيقية للمستهلك وفي مقدمتها إصدار المواصفات القياسية الوطنية والإقليمية والدولية، واعتماد المواصفات والمعايير المناسبة الصادرة عن المنظمات الأقليمية والدولية.

وكذلك العمل على تطوير وتحديث قدرات وإمكانيات الأجهزة الرقابية والفنية؛ من أجل القيام بعمليات الكشف عن المنتجات التي لا تتوفر فيها المعايير والاشتراطات القياسية، وعلى وجه الخصوص المنتجات الغذائية، ومراقبة عمليات الإنتاج والتصنيع الجيد؛ بغية ضمان صحة وسلامة المستهلك واقتصاده وتزويده بالسلع والخدمات؛ التي تتمتع بالجودة وتنبيهه إلى أضرار ومخاطر السلع المقلدة والمغشوشة التي تلحق أضراراً بالاقتصاد الوطني.

أما فيما يخص مسئولية هذه الأجهزة تجاه المنتجين، فتقتضي هذه المسئولية الأخذ بإياديهم من خلال التوجيه المستمر للعمليات الإنتاجية والتسويقية، وبما يؤدي إلى ترقية جودة المنتجات، وصمودها أمام المنافسة، والسعي لتحقيق النمو الاقتصادي.

مسئولية القطاع الصناعي والتجاري:

في ظل السوق العالمية المشتركة يمثل القطاع الصناعي والتجاري الطرف الأبرز؛ كونه المعني في تحقيق رغبات وطموحات المستهلك، من خلال رفع جودة وسلامة المنتجات وفقاً للمواصفات القياسية المعتمدة، مع الأخذ بعين الاعتبار الاشتراطات اللازمة، سواءً أثناء عمليات الإنتاج أو التسويق أو النقل أو التخزين، وعرض السلع بشكلها النهائي للمستهلك في الأسواق مع تزويده بكافة المعلومات والبيانات عن السلع والمنتجات، كما تقع عليه مسئولية رفد وتنمية الاقتصاديات الوطنية.

ومن الثابت والمعروف أن القطاع الخاص يدرك جيداً أن استمرارية وديمومة نشاطه يكمن في زيادة القاعدة العريضة لمستهلكي منتجاته، وهذه الغاية لا يمكن تحقيقها، إلا من خلال الرضا التام من قبل المستهلكين عن المنتجات المقدمة لهم، وبناء علاقة تفاعلية مع المستهلكين لاستيعاب مقترحاتهم حول طبيعة المنتجات والخدمات التي يتعاملون معها، وهذا ما تحرص عليه الشركات التجارية التي تعتبر المسؤولية الاجتماعية والأخلاقية جزءً هاماً من برامجها وأنشطتها وقيمها.

مسئولية منظمات المجتمع المدني ذات النفع العام:

مؤخراً برزت أدوار المنظمات والجمعيات المعنية بالدفاع عن قضايا ومصالح المستهلكين، وهي تُمثِّل دوراً مسانداً وليس بديلاً للأجهزة الرسمية المعنية، وفي الوقت الراهن أصبح المستهلكون بحاجة ماسة إلى وجود هذه المنظمات لتوحيد جهودهم وتحقيق مصالح المستهلكين، وتعريفهم بحقوقهم (الوعي القانوني) وكيفية اتباع الطرق والوسائل القانونية لحماية أنفسهم من صنوف الغش والتضليل، ومن جهة أخرى، تمارس هذه المنظمات دوراً ضاغطاً باتجاه تحقيق المزيد من الحقوق الأساسية للمستهلك، التي أقرتها الأمم المتحدة في وثيقة العهد الدولي، الشق المتعلق بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وتعمل هذه المنظمات على رصد الانتهاكات والممارسات الخاطئة، التي يتعرض لها، كما تعمل على توعية وتثقيف المستهلك وتعريفه بحقوقه؛ بحيث يصبح مستهلكاً واعياً، يخطط بشكل جيد لكل مشترياته ونفقاته، ومدرك لكل ما يدور حوله، ومن خلال الوعي يستطيع حماية نفسه بنفسه فلا يقع في شراك المؤثرات ويقاوم الإغراءات الزائفة والمضللة.

ولا يقتصر الأمر على ذلك، بل يتعداه إلى تقديم الاستشارات للمستهلكين، وتحذيرهم عن أي سلعة تثبت عدم صلاحياتها، من خلال تقارير موثوقة ورفع الدعاوي القضائية نيابة عن المستهلك، فضلاً عن إيصال صوت المستهلك وتمثيله في اللجان المتخصصة بوضع السياسات المتعلقة به.

إن توعية المستهلك بحقوقه وواجباته في ظل سوق عالمية مفتوحة يُعدُّ مسئولية مشتركة، يجب أن تتظافر جهود جميع الأطراف في تحقيقها؛ فغالباً ما يفتقدون إلى المعرفة التي تمثل أهم الأدوات التي تمكن المستهلك من اتخاذ القرارات الاستهلاكية الرشيدة.

المنظمات الإقليمية والدولية:

تطورات حركة حماية المستهلك على المستوى الإقليمي والدولي بدأت من خلال تنظيم المستهلكين أنفسهم في إطار منظمات وجماعات تعنى بحمايتهم من الاستغلال، ومن خلال هذه المنظمات تم تأسيس المنظمات الإقليمية والدولية، وتُعدُّ المنظمة الدولية للمستهلك (CI) التي تم إنشاؤها عام 1960م أهم هذه المنظمات، والتي كان لها دوراً كبيراً في تحقيق العديد من الإنجازات، التي تصب في خدمة قضايا المستهلك على المستوى الدولي، ومن أهمها المطالبة باعتماد الحقوق الأساسية للمستهلك، والتي تم إقرارها من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 1985م، كما تقوم المنظمة في إطار مسئولياتها وتواصلها مع أعضائها من الجمعيات والمنظمات الأهلية المنتشرة في معظم دول العالم بإجراء التقييم المستمر لوضع واقع حماية المستهلك ورصد التحديات التي يوجهها، ومن ثم تعمل على المطالبة لدى الأمم المتحدة وكذلك بالتعاون والتنسيق مع المنظمات الدولية الاخرى لإتخاذ التدابير الكفيلة بحماية المستهلك.

وكانت آخر هذه الجهود المطالبة بتبني وإضافة حقوق جديدة تلبي التطورات الحديثة في المجال التقني والطاقة والتجارة الإلكترونية والخدمات الرقمية وأهمية ضمان مأمونيتها للمستهلك، وفي هذا الاتجاه، كان للمطالبات الحثيثة والتوصيات المقدمة من قبل المنظمة الدولية للمستهلك (CI) بمراجعة المبادئ التوجيهية لحماية المستهلك، أنْ بدأ مؤتمر الأمم المتحدة للتجارة والتنمية (UNCTAD) بعملية مراجعة للمبادئ التوجيهية للأمم المتحدة في يوليو 2013م، وتم تشكيل أربع مجموعات عمل لوضع مقترحات بشأن القضايا المعاصرة والمستجدة المتعلقة بالتجارة الإلكترونية، والخدمات المالية والرقمية، وعدد من القضايا الهامة الأخرى؛ التي أصبحت تشكل جزءً مهماً من السوق العالمية، وتمثل قلقاً لدى المستهلكين فيما يتعلق بموثوقية هذه المنتجات والخدمات، وأوكل لهذه المجموعات تحديث وتعزيز المبادئ التوجيهية العالمية لحماية المستهلك؛ بحيث تكون مناسبة للتطور الرقمي في القرن الواحد والعشرين.

مسئولية المستهلك

إن الضرورة تقتضي عدم إغفال مسئولية المستهلك ذاته في حماية نفسه وأسرته، باتباع الأساليب العلمية لاكتساب المعلومة والمعرفة؛ التي تمكنه من ممارسة دور فاعل فيما يتعلق باتخاذ الخيارات الصحيحة والقرارات الرشيدة عند التسوق والشراء والاستهلاك؛ بحيث لا يقف مكتوف اليدين متَّكلاً على مسئوليات الأطراف الأخرى، وما لم يكن للمستهلك الدور الأساسي والفاعل انطلاقاً من مسئوليته تجاه نفسه وأسرته، فسوف تظل بقية المسئوليات تجاه المستهلك محدودة الجدوى.

إن الظروف والمتغيرات الدولية التي رافقت العولمة والتي لا تزال تفاعلاتها تسير بخطى متسارعة، وعلى وجه الخصوص، فيما يتعلق بالشأن الاقتصادي في جانب منها إيجابي وآخر سلبي، وقد أدى انفتاح الأسوق إلى بروز عدد من الظواهر السلبية منها شيوع أنماط ونزعات استهلاكية غالباً ما تكون غير رشيدة، وإنزال سلع ومنتجات مقلدة ومغشوشة؛ ما يقتضي معه تظافر جميع أطراف العملية التبادلية للقيام كلٌ بدوره في إطار المسئولية المشتركة؛ التي تقوم على الثقة والتنسيق المشترك، فلا يمكن أن يكون هناك مستهلكين دون منتجين، ولا الطرفين دون وجود أجهزة رسمية وأنظمة وتشريعات تتضمن تدابير تنظيمية، وإجراءات فعالة توفر حماية حقيقية للمستهلك، وتتواكب مع تطورات العصر والأسوق العالمية، فكل طرف يكمل الآخر، وعلى جميع الأطراف انطلاقاً من هذه المسئولية المشتركة العمل الجاد، وتبادل المعلومات والخبرات من أجل بناء الثقة بين كل من المنتجين والمستهلكين؛ بحيث تقوم على التوازن ضمن المسئولية المشتركة وصولاً إلى الغاية؛ التي تلبي وتصون حقوق الجميع منتجين ومستهلكين واقتصاد قومي.

 

*مستشار وزارة الصناعة والتجارة للملكية الفكرية وحماية المستهلك – الجمهورية اليمنية

محمود النقيب
Comments (2)
Add Comment
  • عبدالرحمن السعيدي

    اصبت دكتور محمود ،لقد اثرت اهم موضوع أرهق كاهل المجتمعات الضعيفة

  • عبدالرحمن السعيدي

    كلام جميل استاذ محمود ،بالفعل هذا ما اثقل كاهل المجتمعات الضعيفة . الموضوع يحتاج الى احساس بالمسؤولية