في ظل جائحة كوفيد – 19 وترنُح الدول ما بين موجات مدٍ وجزرٍ، واجتياح وانحسار وانفتاح وإغلاق وتشديد وتخفيف للقيود على مستوى العالم، وعودة الدول والحكومات من جديد إلى قائمة أولوياتها ليعود التغير المناخي إلى الاهتمام والواجهة من جديد. لربما يتساءل الكثيرون منا عن مصطلح انتشر مؤخراً في السنوات الثلاث الأخيرة وهو “Net Zero”.
فما المقصود بهذا المصطلح؟ وما معناه؟ وما ارتباطه بالتغير المناخي؟ وما مدى الجدية في وضع الحلول والاستراتيجيات من قبل الحكومات؟ وغيرها من التساؤلات.
تساؤلات عدة وليس للقائمة من نهاية، وسنحاول التطرق إليها باختصار، وما هي إلا بداية المطاف وليس نهايته في هذا الملف الحيوي، والذي قد يرسم مستقبل الحياة على كوكب الأرض واستدامتها.
Net Zero” “هو مصطلح يشير إلى تحقيق التوازن بين كمية الغازات الناتجة من الانبعاثات الصناعية في الجو وبين كمية الغازات المراد إزالتها من الجو. وبالتالي فإن الترجمة الضمنية لهذا المصطلح هي ما يُعرف بالحياد المناخي – كأقرب ترجمة غير حرفية إن صح التعبير.
فالوصول إلى الحياد المناخي يتحقق عندما يكون مقدار الغازات المضافة إلى الجو ليس بأكثر من الغازات المستبعدة أو المسحوبة من الجو. لكن كيفية وماهية تحقيق تلك المعادلة ولماذا الأمر من الأهمية بمكان، فهذا هو مجال بحثنا.
مصطلح Net Zero وقبل الخوض في التفاصيل، يلزمنا العودة قليلاً بالزمن إلى حقبة التسعينيات حين بدأنا نسمع عن ظاهرة الغازات الدفيئة أو مصطلح” “Greenhouse Gases باللغة الإنجليزية والذي مرجعه للغازات الدفيئة المنبعثة من المصانع والناجمة عن احتراق الوقود الهيدروكربوني وما له من أثر في الاحتباس الحراري Global warming”” والمتسبب كذلك في ارتفاع درجة حرارة كوكب الأرض واتساع ثقب طبقة الأوزون نتيجة الغازات المنبعثة وارتفاع درجة الحرارة، وصولاً إلى مصطلح التغير المناخي “Climate Change”الذي انتشر مع مطلع دخول الألفية الثالثة.
أصبح التصدي للتغير المناخي بمثابة الهاجس لحكومات الدول والشركات الصناعية الكبرى وصولاً إلى المعنيين على مستوى الأشخاص. بل غدى الديدن والشغل الشاغل للمجتمع الدولي وعلى رأس جداول أعمال الملتقيات الدولية للوصول إلى الحياد المناخي عن طريق المبادرات كأحد الطرق والوسائل.
وضمن هذا السياق، تُعد المملكة المتحدة أول دولة صناعية من الاقتصاديات الكبرى تعلن مستهدفاتها للوصول إلى الحياد المناخي عام 2050م. وعلى صعيد منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا أنضمت دولة الإمارات العربية المتحدة مؤخرا كأول دولة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا تطلق استراتيجية الحياد المناخي 2050م في شهر أكتوبر الماضي 2021م.
والتغير المناخي ببساطة سببه ارتفاع حرارة كوكب الأرض بمقدار درجة سليزية وبمتوسط 1.5 درجة سليزية مقارنة ببداية عصر الثورة الصناعية، والتي لا تبدو بالشيء الكبير للوهلة الأولى، ولكن الواقع الفعلي وتراكم زيادة درجات الحرارة له تأثيرات سلبية قياساً على النمطية الحالية لارتفاع درجة الحرارة لكوكب الأرض، والتي تنبئ بزيادة درجة الحرارة بمعدلات ما بين 5-3 درجة سليزية مع حلول عام 2100م.
وليس أدل على هذه التأثيرات اليوم ما يعيشه كوكبنا من تأثيرات مناخية ناجمة عن الارتفاع الحراري مثل الموجات الحرارية، الأعاصير، الفيضانات، وذوبان الجليد في المناطق القطبية وارتفاع مستوى سطح البحر، وكلها دلائل تشير إلى أن الأرض تزداد حرارتها، وجميع هذه الظواهر المناخية ستزداد سوءاً مع زيادة شدة الارتفاع الحراري.
تشير أغلب الدلائل أيضا بأن أكثر عشرين عام دفئاً في تاريخ الكوكب هي الإثنين والعشرين عاماً الأخيرة بحسب منظمة الأرصاد الجوية العالمية وأكثرها دفئاً هي الأعوام الأربع خلال الفترة 2015-2018م.
ومما لا شك فيه عدم اختلاف العلماء والحكومات على أن مسببات التغير المناخي ترجع بالأساس إلى المستويات العالية من الانبعاثات الغازية في الجو مثل غاز ثاني أكسيد الكربون والميثان، ولذلك يُعتبر الحد من الانبعاثات الكربونية في الجو والتخفيف من البصمة الكربونية أو استخدام بدائل ذات انبعاثات كربونية أقل في عمليات التصنيع وتوليد الطاقة ووسائل المواصلات والحد من الزراعة الجائرة هو أحد أنجع الحلول الممكنة لإيقاف التغير المناخي وتداعياته، بالإضافة إلى الإكثار من زراعة الأشجار لزيادة توليد الأكسجين.
قد لا يكون مصطلح الحياد المناخي هو المفهوم المثالي، حيث إنه من غير المنطقي أن نصل إلى “صفر” انبعاثات أو نوقف جميع الانبعاثات في الجو لجميع القطاعات الصناعية، وفي حياتنا حتى مع أفضل الجهود سيكون هناك بعض الانبعاثات الكربونية التي لا مناص منها. فالحياد المناخي يستهدف الانبعاثات بشكل عام ويسمح لإزالة البعض منها والذي لا يمكن تفاديه كالانبعاثات الناجمة عن قطاع الطيران والتصنيع مثلا. أما الانبعاثات الأخرى فيمكن إزالتها عن طريق الطبيعة من خلال الأشجار والمسطحات الخضراء التي بدورها تمتص غاز ثاني أكسيد الكربون من الجو أو من خلال عمليات التصنيع باستخدام تقنيات وتكنولوجيا متطورة.
وهنا تأتي أهمية الحياد المناخي لمعالجة أو التصدي لظاهرة التغير المناخي عن طريق تقليل الاحتباس الحراري، وهذا ما تحاول الدول والحكومات والصناعة على حد سواء القيام به على مدى الثلاث قرون القادمة لتقليص وخفض الانبعاثات الكربونية، وهو ما يتطلب العمل الجماعي من الدول والمصنعين في شتى القطاعات للوصول للهدف المنشود بنهاية عام 2050م.
تُعد أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة 2030 Sustainable Development Goals وتحديداً الهدف الثالث عشر “العمل المناخي” منها هو محور الربط مع الجهود الدولية للحكومات والدول. ففي أحدث تقرير أصدرته الوكالة الدولية للطاقة International Energy Agency”” والذي حددت من خلاله معالم وخارطة طريق للوصول للحياد المناخي 2050م، وذلك بتحقيق التوازن المطلوب للوصول للحياد المناخي دون الإخلال بإمدادات الطاقة العالمية وتمكين النمو الاقتصادي العالمي عن طريق إيجاد بدائل طاقة نظيفة ومتجددة مثل الطاقة الشمسية وطاقة الرياح وغيرها كبدائل عن الوقود الأحفوري المسبب للانبعاثات الكربونية في الجو.
ولسنا هنا بصدد التقليل من هذه الجهود برمتها والاقتصار على وضع خارطة طريق ذات أولويات فقط، حيث إن ما سيتم تحقيقه من خفض لانبعاثات ثاني أكسيد الكربون الآن وحتى عام 2030م سيأتى من تكنولوجيا قائمة ومتوفرة اليوم.
أما فيما يتعلق بالوصول لمستهدفات عام 2025م فسيتطلب عمل مشترك من الجميع واستثمارات مالية ضخمة للوصول للحياد المناخي عام 2050 مدعومة بالابتكار في الصناعة والتكنولوجيا والبحث والتطوير، لتحقيق طاقة بموارد ذات كفاءة عالية هي على الأغلب وحتماً ليست متوفرة في يومنا هذا.
الحراك سيستمر بلا شك والعجلة ستستمر في الدوران ولن تكون نهايته مجرد وضع خارطة طريق لتنفيذ استراتيجيات دول وحكومات، ولكن كغيرها من الاستراتيجيات ستكون هناك أوقات تغلب فيها أولويات على أخرى، وليس أدل على ذلك من جائحة كوفيد -19 الأخيرة التي قامت بتغيير أولويات واستراتيجيات دول العالم قاطبة.
لقد راهنا من قبل على أن تغيرات كثيرة قد تطرأ على جوانب عديدة من حياتنا في مرحلة ما بعد جائحة كوفيد-19، وما محاولات وجهود الدول الحثيثة للعودة والنهوض من الركود الاقتصادي الذي يشهده العالم حالياً كجزء من جهود التصدي للتحديات المعاصرة كأمن الطاقة والتغير المناخي، والذي يعد أهمها إن لم يكن الأهم على الإطلاق وأراه شخصياً ذو ارتباط وثيق بالمتغيرات الحالية، إلا تصديقاً لما تم التنبؤ به وهو غيض من فيض.
يقيناً سنشهد تسابق الدول في إطلاق استراتيجياتها الوطنية الخاصة بالحياد المناخي على المدى القريب، خصوصاً وأن العالم سيشهد تجمعاً دولياً قبل نهاية هذا العام في شهر نوفمبر في COP26 باسكوتلندا والذي يتوقع أن يؤطر استراتيجيات الدول بهذا الخصوص.
فهل نشهد أيضاً في سنواتنا الخمس القادمة تغيراً جذرياً، أو بالأحرى سيدرك هذا الجيل نتائج استراتيجيات الدول للحياد المناخي خلال العقود الثلاث القادمة؟
لنرتقب فإن غداً لناظره قريب.
* مدير إدارة المواصفات – وزارة الصناعة والتكنولوجيا المتقدمة- الإمارات العربية المتحدة
رووووووووعه بارك الله فيك مقال ممتاز