العلاقات العامة وحماية المستهلك في عصر الميتافيرس

د. غالب محمد طه

ميتافيرس بالإنجليزية “Metaverse” كلمة تتكون من شقين الأول meta (بمعنى ما وراء، أو الأكثر وصفاً) والثاني”verse ” (مُصاغ من “Universe” وتفيد (ما وراء العالم)، ويستخدم المصطلح عادةً لوصف مفهوم الإصدارات المستقبلية المفترضة للإنترنت، المكون من محاكاة ثلاثية الأبعاد لا مركزية ومتصلة بشكل دائم. هذه العوالم الافتراضية يمكن الولوج إليها والوصول لها عبر نظارات الواقع الافتراضي أو الواقع المعزز والأجهزة الذكية والحواسيب المكتبية ومنصات الألعاب [1].

ويعتبر “الميتافيرس” مفهوم حديث وناشئ، ويعبر عن الرؤية المستقبلية للإنترنت، ويتوقع أن يؤدي دوراً محورياً في المستقبل القريب من خلال التحولات العميقة التي سيحملها للعالم الواقعي وفي  كل المجالات لاسيما الاقتصادية والتي تعتبر رأس الرمح في الخطي الرقمية المتسارعة.

العلاقات العامة منصة للتوعية في عصر الثورة الصناعية الرابعة

قبل ألف وأربعمائة عام وضع معلم البشرية وهاديها سيدنا محمد-صلى الله عليه وسلم-الأسس الحقيقية لعلم العلاقات العامة باعتنائه بالإنسان وكرامته وأفكاره ورغباته من خلال منهاجٍ دعويٍ شامل قام على التوحيد ونبذ الفرقة والشتات، باعتماده على البراهين والإقناع والحُجة: (وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) “سورة التوبة: 128”.

ويعتبر الإقناع أهم الوسائل الحديثة التي  يقوم عليها علم العلاقات العامة، يأتي التوجيه والإرشاد توعية متأصلة من القرآن لساناً يجري به أقوال الفقهاء والعلماء ليترك أثراً قوياً في تعزيز صورة الإسلام في النفس البشرية، ورفع الروح المعنوية في السلم والحرب.

والدين الإسلامي وضع المبادئ الأساسية لعلم العلاقات العامة بدعوته إلى المعاملة الحسنة والمعشر الطيب وعياً بجمهوريه، الداخلي الذي اعتنق الإسلام، والخارجي من خلال المخاطبة الإلهية: (وجادلهم بالتي هي أحسن)، فأمره تعالى بلين الجانب، كل ذلك وضع كمواصفة إنسانية أخلاقية تهتم بالفرد، وتهذيبه والمجتمع وتقويمه.

فالوعي تجاه أي موضوع، يحتاج لاهتمام كبير على كل المستويات، وتوحيد الجهود النظرية والتطبيقية، والإرادة، على السواء من أجل تغذيته وصقله وجعله هدفاً استراتيجياً الأمر الذي يُسهم في تحديث المجتمع، ويعجل في عملية التنمية.

والتقييس اليوم أضحى من العناصر الأساسية المُهمة في جميع الأنشطة العلمية والتكنولوجية في مجتمعاتنا المعاصرة، وغيابه في مثل هذه الأنشطة له انعكاساته السلبية التي تجعل من إدارة هذه الأنشطة والتعايش معها أمراً معقداً، والتقييس لا يرتبط بالأنشطة العلمية والتكنولوجية فحسب، بل بات يرتبط بحياتنا كأفراد ومجتمعات بشكل كبير، وبدونه تصير الحياة مرتعاً للغش والتلاعب وسلب الحقوق وهدر للأموال، ويظهر ذلك جلياً فى كل ممارساتنا فى الحياة اليومية، فالتقييس يدخل الآن في كل المنتجات التي نستخدمها خلال اليوم، والتي تكاد لا تخلو من الاشتراطات الفنية والشروط المعينة التي حددتها المواصفات القياسية بهدف سلامتنا والحفاظ على صحتنا، ومن أجل يعيش الفرد حياة مهيأة وكريمة وسليمة ونظيفة، بالإضافة إلى أهداف أخرى لا تقل أهمية تتعلق بحماية البيئة التي نعيش فيها.

ولما كان التقييس ذا طابع شامل، فإن السعي لتحقيقه لابد من أن يتم فى إطار متكامل تتضافر فيه الجهود الرسمية والمجتمعية فى سبيل تحقيق نشره وتبيان أهميته لتبقى الجهود المبذولة من طرف واحد محدودة الأثر، وقد تكون غير فاعلة، ليأتي دور مؤسسات المجتمع المدني لملء الفراغ بين المواصفات والمقاييس لتنمية وتعزيز الدور الاجتماعي لضمان انسياب المعلومات التوعوية وتوسيع المشاركة لدعم الجهود فى نشر ثقافة التقييس وتعزيزها في المجتمعات العربية ، فهنالك تشابه كبير بين المستهلكين العرب دولاً وأفراداً حيث يتشابهون في أنماط السلوك الاستهلاكي، ولكن يظل الاختلاف بين الدول العربية اختلاف مقدار وليس اختلاف نوع، وهذه الفروقات لم تحكمها سياسات أو استراتيجيات، وإنما ظلت محكومة بالأعراف والتقاليد والعادات، وعلى رأس هذه القائمة هو مستوى الدخل وحالة الغنى والفقر، وبالتأكيد الثقافة السائدة والمتوطنة حول مفهوم الاستهلاك كأحد الفوارق الاجتماعية وتحديد الوضع الاجتماعي للمستهلك (الاستهلاك التفاخري) [2].

حيث يُعد ترسيخ مفهوم التقييس أمراً حيوياً بالغ الأهمية يؤدي إلى إيجاد رأي عام مستنير قادر على التمييز بين المفيد والغثّ، وبالتالي يُسهم فى تقوية الاقتصاديات الوطنية ويعطي الثقة للمُنتج المحلي.

وليس أدلّ على ما حدث في السنوات الأخيرة من تداعيات  الانفتاح الكبير وتدفق السلع مسّ -وبعمق- ثقافات المجتمعات الأساسية المعاصرة فظهرت رهانات جديدة في كيفية المحافظة على أعلى درجات الوعى والمواكبة بثقافة التقييس والجودة.

ويعتبر مجال التقييس من المجالات التي ما زال مفهومه حديث العهد- رغم كل المجهودات الصادقة لنشره- ونشاطه قاصر على فئة معينة من المجتمع، مما يعني احتياجه لتكثيف نشر المزيد من التوعية عبر الوسائل الإعلامية المختلفة.

ولعل العلاقات العامة الحديثة وبما تمتلكه من تقنيات ووظائف، لا يقتصر دورها على كونها نشاط بين المؤسسة وجمهورها، بل تتعداه إلى كونها فلسفة اجتماعية تهدف لمعالجة مشاكل الفرد في المجتمع ومساعدته لفهم المتغيرات والتكيف معها، والتأثير عليه للحصول على تأييده لتحقيق الانسجام الاجتماعي، فقد أدى تطور وسائل الاتصال والإعلام لبروز الأدوار الحديثة التي أصبحت تلعبها العلاقات العامة لدعم المؤسسة واتسعت ممارساتها فى مجال نشر الوعي والثقافة لارتباطها بالإجراءات الاتصالية للبيئة الداخلية والخارجية للمؤسسات، وذلك لإشاعة الوعي العام بأهمية نشر ثقافتها وضرورة العمل بها لاحتواء الأضرار والتقليل منها، وبأحدث الطرق الابتكارية والإبداعية والتي تمكنها من تغيير صورتها وتجذيرها فى الأذهان.

والعلاقات العامة في العصر الحديث تعتبر أداة تغيير وتثبيت صورة ذهنية للمؤسسات تساعدها على إنجاح برامجها وتنفيذ سياساتها المختلفة. ولعل العلاقات العامة شأنها شأن العلوم الإدارية الحديثة، أخذت تتأثر بالنظريات السلوكية والتنظيمية، مما يمكنها أن تتبنى سياسات استراتيجية ترمي للتوعية الراشدة لإيجاد مجتمع يجيد ثقافة التقييس والجودة. فالهدف العام الذي تسعى العلاقات العامة والإعلام لتحقيقه هو المساهمة فى تحقيق التنمية، وبسط الوعي لإحداث تحول حقيقي في اتجاهات الناس وسلوكها، والالتزام بالمواصفة لأنها توفر الأمن وتعكس التطور والتقدم والمواكبة المستدامة المتمثلة فى الصحة ورفاه المجتمع.

واليوم، ومع التطور الهائل الذي حدث بفعل الثورة التكنولوجية، وما أحدثته من تغييرات جذرية في المفاهيم صار لزاماً على المنظمات التماهي مع الفعل التكنولوجي والاستفادة منه في إحداث نقلة في مجال التواصل مع الآخرين من خلال توظيف استراتيجيات العلاقات العامة المختلفة لتشكيل واقع جديد يفضي إلى رفع مستوى وعي المجتمع.

وتأسيساً على ما سبق فإن العلاقات العامة لها القدرة -إن مارست عملها بإتقان وتفاني وإبداع ووظفت عبر وسائلها الإعلامية المختلفة كل تقنيات الثورة الصناعية الرابعة بدءاً من الروبوتات، والذكاء الاصطناعي، وتكنولوجيا النانو، والتكنولوجيا الحيوية، وإنترنت الأشياء (IoT)، وانتهاءً بعالم الميتافيرس المُبهر- في المساعدة في توعية المستهلك والتعريف بحقوقه ونشر الوعي بأنشطة التقييس وثقافة الجودة.

 

* دكتوراه في الاعلام تخصص في استراتيجيات العلاقات العامة.

[1] د. معزة مصطفي أحمد، الإعلام الرقمي وشبكات التواصل الاجتماعي في عصر الذكاء الاصطناعي والميتافيرس، ط1، 2023مالمتحدة للنشر – الشارقة ص192

[2] بروفيسور ميرغني ابن عوف، خبير في حماية المستهلك والبيئة

Comments (0)
Add Comment