لم تعد عملية إنتاج السلع والخدمات ذلك النموذج البسيط للمواد المكونة للسلعة، وكان لزيادة معدلات الاستهلاك دوراً كبيراً في حث المنتجين لاستعمال المواد الكيمائية في طريق اتجاههم إلى تحقيق أعلى نسبة تسويق، ولم ينصرفوا للاهتمام بمصالح وحقوق المستهلك وسلامته وصحته واقتصادياته.
وفي ظل تدني الوعي لدى المستهلك بأهمية ملائمة السلع والخدمات له فما زال عرضة لظواهر الغش والتقليد وإغراق الأسواق بالمنتجات متدنية الجودة، ولقد لعب التقدم العلمي السريع لتطور تكنولوجيا ووسائل الإنتاج وأدوات كثافة الإنتاج إلى الحد من عناصرالتكلفة للمنتجات، ولكن صاحب ذلك سوء في الإنتاج، وعدم مطابقة المنتجات للمواصفات والمقاييس القانونية المعتمدة في معظم الأحيان.
وعلى الرغم من اهتمام المشرع في الإطار الإقليمي والدولي بإنشاء هيئات رقابية ومواصفات قياسية وإصدار قوانين وتشريعات ولوائح وأنشئت منظمات للدفاع عن حقوق المستهلك لتصب كلها في اتجاه استيفاء حقوقه إلا أنه ما زال هناك قصور في تحقيق الأمن والسلامة والحماية له .
إن صناعة وإنتاج الوعي بالتقييس لدى المستهلك يشكل طاقة متجددة توفر الضمانة لجودة المنتجات وتسير بصورة تلقائية متزامنة في توفير الحماية للمستهلك.
في 15 مارس من كل عام يأتي اليوم العالمي للمستهلك لتبرز أمامنا العديد من القضايا ذات الأهمية بحياة المستهلك وأبرز ما يذكرنا في إطار هذه القضايا كمستهلكين مجموعة البنود المتمثلة بالحقوق الأساسية التي أقرتها الأمم المتحدة عام 1985م، وأطلقت عليها بحقوق المستهلك والتي تبدأ بحق السلامة وتنتهي في حق الحياة في بيئة صحية خالية من المخاطر للأجيال الحالية والمستقبلية.
ومن الطبيعي أن هذه الحقوق المقرة لم تأت بسهولة وإنما جاءت نتاج لجهود نضالية ومطالبات حثيثة ومستمرة ولم يتوقف الأمر عند الإقرار لهذه الحقوق، بل نشطت منظمات وحركة حماية المستهلك في مختلف دول العالم وعلى رأسها المنظمة الدولية للمستهلك كحركة عالمية تعمل على رصد التحديات التي تواجه حقوق مستهلكي العالم ليس هذا فحسب بل أيضاً تمارس الضغط باتجاه ترجمة هذه الحقوق إلى وقع عملي فضلاً عن احترام إرادة المستهلك وعدم التأثير على خياراته وتوجهاته أو استغلال احتياجاته من خلال المؤثرات الإعلانية والترويجية التي يتم نشرها وبثها عبر مختلف الوسائل الإعلامية بما فيها وسائل التواصل الإجتماعي .
من المعلوم أن المنظمة الدولية للمستهلك (IC) تبذل جهوداً كبيرة في سبيل تحقيق المزيد من المكاسب للمستهلك من خلال المقترحات والمبادرات البناءة التي تتبناها وتهدف الى إيجاد نهج عالمي لسلامة المنتجات في عصر العولمة، كان آخرها تقديم اقتراح للأمم المتحدة لجعل أسبوع حماية المستهلك العالمي احتفالاً رسمياً لدى الأمم المتحدة، ويأتي هذا الاقتراح من منطلق أن حماية المستهلك موضوع أساسي لضمان معاملة المستهلكين معاملة عادلة في الحصول على السلع والخدمات الآمنة والمستدامة، وسيساعد جعل أسبوع حماية المستهلك العالمي احتفالاً رسمياً للأمم المتحدة على زيادة الوعي بحماية المستهلك وتعزيز حقوقه في جميع أنحاء العالم.
من الجدير بالذكر أن حملة جعل أسبوع حماية المستهلك العالمي احتفالاً رسميا للأمم المتحدة قد حظي بتأييد رائع من أعضاء المنظمة وهيئات ووزارات حماية المستهلكين، وسوف ينسحب أثره الإيجابي عندما تحسن الهيئات ومنظمات حماية المستهلك استغلال الفرص المتاحة وتحويل المخاطر التي تواجه المستهلك إلى فرص تصب في تنمية وعي المستهلك تجاه التقييس.
وفي سياق ما تقدم، إذا ما ألقينا نظرة استطلاعية واستقصائية للواقع الراهن الذي يعيشه المستهلك، والتعرف عن كثب على ما تحقق من ترجمة وتجسيد حقيقي للحقوق على أرض الواقع الذي يعيشه المستهلك وعلى مستوى مختلف دول العالم بلا شك سنجد أن هذه الحقوق تتفاوت وتتباين في ترجمتها عملياً ما بين دولة وأخرى، وبحسب ما توليه حكومة وشعوب تلك البلدان بحقوق المستهلك من اهتمامات وعلى سبيل المثال نجد أن الدول المتقدمة أكثر إهتماماً بحقوق المستهلك فيما تتراجع هذه الاهتمامات إلى أدنى مستواها في أكثر بلدان العالم الثالث بما فيها بعض الدول العربية إذ تقتصر اهتماماتها بحقوق المستهلك في المشاركة السنوية في الاحتفالات التي تقام بمناسبة اليوم العالمي لحقوق المستهلك .
التقييس كأداة فعالة لحماية المستهلك:
يعرف التقييس حسب ما وضعته المنظمة الدولية للتقييس “”ISO بأنه (وضع وتطبيق قواعد لتنظيم نشاط معين لصالح جميع الأطراف المعنية وبتعاونها وبصفة خاصة لتحقيق اقتصاد متكامل مع الاعتبار الواجب لظروف الأداء ومقتضيات الأمان).
إن الاهتمام بالتقييس يمثل دعامة رئيسية وأساسية لحماية المستهلك من حيث أنه يجعل المستهلك أكثر اطمئناناً عند استخدامه للسلع ذات المواصفات القياسية المعتمدة، وفقاً للأسس والمعايير العلمية الصحيحة والسليمة التي يراعى فيها كل متطلبات السلامة في مكوناتها ومحتوياتها.
وفي السياق لابد من الإشارة إلى مدى تلازم العلاقة العضوية بين كل من التقييس وحماية المستهلك في عدة مجالات منها السلامة و الحماية الصحية والاقتصادية والبيئية، فضلاً عن الدور الذي يضطلع به التقييس في حماية المستهلك.
من هذا المنطلق فإن توعية المستهلك في جانب التقييس والمواصفات من الأمور بالغة الأهمية فكلما ازداد المستهلك وعياً ومعرفة بمواصفات ومقاييس السلع التي يتعامل معها في حياته اليومية سواءً كانت سلع استهلاكية أو غذائية كلما كان أقدر على ممارسة الاختيار الرشيد للسلع والخدمات الجيدة ذات المواصفات والمقاييس المناسبة وذات الجودة المناسبة، وابتعد عن السلع الرديئة غير المطابقة للمواصفات .
وفي إطار هذه التناولة لابد من الإشارة إلى أن دول مجلس التعاون الخليجي قد بدأت في الآونة الأخيرة بخطوات حثيثة في الاتجاه السليم وذلك من خلال إيلاء جانب التقييس والجودة قدر كبير من الاهتمام، ويتضح جلياً من خلال جملة الإجراءات التي تم اتخاذها في الفترة الأخيرة من قبل هيئة التقييس لدول مجلس التعاون ويأتي في طليعتها تأهيل البنية التحتية للجودة باعتبارها الركيزة الأساسية لحماية المستهلك وبناء الثقة في المنتجات، بالإضافة إلى توحيد أنشطة التقييس المختلفة من خلال إنشاء نظام موحد للقياس والمعايرة لدول الأقليم .
إن التعاون والتنسيق بين أجهزة التقييس الوطنية في القضايا الجوهرية الأساسية والمحورية ينبغي أن تكرس كل الجهود حيال الجودة كمطلب استراتيجي لتعزيز القوة الاقتصادية فضلاً عن نشر الوعي بأهمية التقييس وتعزيز ثقافته لدى مختلف شرائح المجتمع ودوره في حياتنا اليومية، وكيفية التعامل مع السلع المنتجة في المجتمعات المحلية والإقليمية، فضلاً عن غرس مضامين الجودة والالتزام المهني والأخلاقي لإنتاج سلع مستوفاة لشروط السلامة والأمان.
ولتحقيق دور وأهداف التقييس وترجمتها إلى واقع عملي يتطلب أن يرافق ذلك اتخاذ العديد من الخطوات العملية أهمها:
• مراجعة التشريعات المتعلقة بسلامة المستهلك، ودور أنشطة التقييس في تطبيقها.
• تكثيف إجراءات الرقابة على جودة السلع والمنتجات المتداولة في الأسواق.
• إصدار شهادة المطابقة وإجراءات التصديق على شهادة المطابقة، ووضع إجراءات ونظم التحقق من مطابقة المنتجات للمواصفات القياسية المعتمدة.
• وضع أطر سلامة المنتجات والتي يمكن للمستهلكين طلب الإنصاف إذا ما تعرضوا لتضليل أو غش.
• تفعيل عملية الرقابة على أدوات القياس المستخدمة لدى المنشآت التجارية من أجل التأكد من سلامتها.
• تطبيق الإجراءات الصحية والاشتراطات والمتطلبات الفنية التي يلزم توفرها على السلع وأهمها تاريخ صلاحية المنتجات .
كما ينبغي أن يكون للإعلام دور مهم في نشر التوعية سيما في الجوانب التالية :
1- التعريف بأهداف التقييس المختلفة وحماية المستهلك والبيئة والصحة العامة.
2- تحديث وتصميم الرسالة التوعوية الملائمة للحملات الإعلامية التي تستهدف المستهلك.
3- بلورة مفهوم الحماية الإلكترونية للمستهلك والذي يعني الحفاظ على حقوق المستهلك وحمايته من الغش والاحتيال.
4- قيام وسائل الإعلام بتصميم ثقافة شرائية وحقوقية لتمكين المستهلك من ممارسة دوره الوقائي تجاه قضاياه وحقوقه، وكلما يتعلق بصحته وسلامته.
5- التوعية بكيفية التعامل بتخزين سليم وصحيح للمواد الغذائية والأدوية التي تتأثر بالظروف المحيطة بها والإرشادات بضمان سلامة التخزين وضمان سلامة السلع المخزنة.
6- توعية المستهلك بالغش التجاري وطرق ووسائل وأساليب وكيفية التعرف عليه والتعامل معه.
7- تعزيز الثقافة القانونية للمستهلك لكي يحمي نفسه وأسرته ومجتمعه من أي ممارسات تلحق الضرر بسلامته وصحته.
وبصورة عامة فإن الوصول إلى تحقيق الأهداف المنشودة تتطلب استخدام أدوات ذات تأثير قوي تجاه تغير المسار الاقتصادي وتسريع حركة النمو وضمان حقوق المستهلك بصورة دائمة، وكذلك الاهتمام برسم السياسات والبرامج التي تعمل على مكافحة الأمراض غير السارية والتركيز على تعزيز الثقافة الشرائية المتوازنة، وإبراز الأضرار التي تنجم عن الثقافة العشوائية وتؤثر على ثقافة المجتمع، والتأكيد على ضرورة إضافة مادة اليود إلى ملح الطعام لما يمثله اليود من أهمية في التمثيل الغذائي السليم والوقاية من الأمراض، وحث وتوجيه وسائل الإعلام المختلفة لعدم نشر أو بث الإعلانات المضللة، إلى جانب الاهتمام بالتوعية الاستهلاكية التي تساعد المستهلك على اتباع النظم الغذائية الصحية التي تقيه من الأمراض غير السارية .
وفي الأخير تقتضي المصلحة العليا للمستهلك إشاعة الوعي بأهمية التقييس في حياتنا اليومية عموماً، فضلاً عن أهمية تعزيز الجودة الشاملة من خلال توفير منتجات مطابقة للمواصفات القياسية للحفاظ على الصحة والسلامة والأمان للمستهلك والبيئة
وفي إطار الشعار الذي أطلقته المنظمة الدولية للمستهلك للاحتفال باليوم العالمي لحقوق المستهلك 2020م “المستهلك المستدام The Sustainable Consumer” وعلى اعتبار أن موضوع الاستدامة ليست بالأمر اليسير بالنسبة للمستهلكين، لذلك فإننا معنيين جميعاً ببذل مزيد من الجهد من أجل حماية كوكب الأرض وتوفير الظروف الاجتماعية العادلة للأجيال الحالية والمستقبلية، كما أننا بحاجة إلى إنتاج واستهلاك سلع وخدمات أكثر استدامة وزيادة كفاءة استخدام الموارد، وبما يساعد على التخفيف من حدة الفقر وتمكين الجميع من التمتع بنوعية حياة جيدة، مع الحصول على الغذاء والمياه والطاقة والأدوية، كما ينبغي ضمان قيام المنتجين وصانعي السياسات ببذل كل ما في وسعهم لجعل المنتجات آمنة ومستدامة وفعالة وذات جودة.
* الأمين العام السابق للجمعية اليمنية لحماية المستهلك.