من الطبيعي أن تتعرض المنظمة في مسيرة حياتها لعدد من المنعطفات والتقلبات المالية أو البشرية أو التقنية أو القانونية أو الاجتماعية، كعناصر مهمة في بيئتها الداخلية أو محيطها الخارجي؛ وفي هذه الحالة تنشأ حالة من الضبابية المؤسسية، تزداد أو تقل حسب درجة هذه التقلبات أو الأزمات. وما لم يكن هناك وضوح لرؤية المنظمة يحدد إدراكها لواقعها الحالي وتصورها للمستقبل، ستجد المنظمة نفسها أمام خيارين: إما غض الطرف وتجاهل هذه الحالة، مع إمكانية التعرض للكثير من المخاطر، وخسارة الكثير من مكتسباتها. أو الاستسلام، وهذا القرار أيضاً ليس في صالح المنظمة، وفي كلتا الحالتين، تفوتها الفرص، وقد تصاب بحالة من الشلل أو الموت البطيء.
وتكمن خطورة الحالة الضبابية في حالة التشتت وغياب الفكر المؤسسي الممنهج والمنظم. فالفكر الضبابي يحمل في طياته نقصاً لا يمكن تجاهله، وقرارات عالقة بين الضبابية والوضوح، والاعتماد على عنصري العفوية والمفاجأة أو العشوائية والارتجالية، أو الاهتمام بالمظاهر الخارجية للمشكلة دون الحل من الجذور أو النظر بعمق إلى المضمون، مع غياب لائحة الإجراءات والمحاسبة، وتداخل صلاحيات واختصاصات الوحدات التنظيمية، مما يشكل ضغطاً مفجراً للمنظمات ومدمراً لكيانها الإداري.
ويوماً بعد يوم تتسع الفجوة، وتفقد القيادة وطاقمها التنفيذي البوصلة الاستراتيجية، مع حالة مستمرة من علامات الاستفهام التي لا تجد لها إجابات شافية. وبالتالي ملفات مفتوحة، وهو ما يعنى حالة من (الانفصام المؤسسي) والغموض الذي يكتنف العلاقة بين القيادة وفريق العمل، وبين المنظمة وشركائها، مع مزيدٍ من المعاناة والجدلية، والظهور بمظهر المؤسسة المتخبطة، وبالتالي نحن هنا أمام ما يشبه متلازمة الضبابية المؤسسية.
فما الحل؟
القيادة خارج نطاق الصدمة:
من المفيد جداً للقيادة في مثل هكذا حالة تبني ما يسمى بأسلوب القيادة (خارج الصدمـة)،أو مبـدأ (الإدارة التصادمية) ضد الجهل والعشوائية والسلبية واللامبالاة، وإزاحة الضبابية الحقيقية أو المصطنعة، وتحليل أسبابها وبواعثها، واختبار مدى صدقها، والتعامل معها بقرارات عقلانية رشيدة بعيداً عن الانفعالات، وذلك بخبرة الجراح الماهر الذي يرفض الانفعالات اللحظية المكانية والزمانية، والانتقال من استراتيجية الدفاع إلى استراتيجية الهجوم؛ وفي أدبيات القيادة العسكرية الاستراتيجية لنابليون “لا يمكن للقائد أن يحقق النصر في المعارك العظيمة بالدفاع!“ ولا أدري أي شيء أعظم من معركة المحافظة على كيان المنظمة؟!
الفوتغرافية المؤسسية
يتعين على القيادة المؤسسية أن تكون على دراية كاملة بالظروف الحالية التي تحيط بالمنظمة، سواء كانت جيدة أو سيئة، وأن تتحلى بالجرأة لمواجهتها، وتقليل الخسائر المترتبة عليها، واقتناص الفرص المتاحة منها، مع قدرة على استشراف ورؤية الاحتمالات المستقبلية للمنظمة. والتقاط صورة فوتغرافية حية في المستقبل يمكن لأعضاء المنظمة رؤيتها والشعور بها عقلياً ووجدانياً.
وعندما تصادف المنظمة وضعاً ضبابياً في مسيرة حياتها ينبغي عليها البدء بإعداد خطط واضحة بديلة للتعامل الأمثل مع حالة الضبابية باحترافية ومهنية بما يسمح لها تحقيق أهدافها، وذلك من خلال تجزئة رؤيتها العامة إلى رؤى مرحلية قصيرة المدى وخطط تكتيكية بأهداف كمية مقاسة لمشاريع ذات أثر بالغ وجوهري في حياة المنظمة، ثم الاتجاه نحو الوسيلة المناسبة والمصادر المتاحة، يصاحب ذلك تدقيق استراتيجي ومراجعة حثيثة وحالة من الانعقاد الدائم لمراجعة وتقييم مدى التقدم في تنفيذها، ووضع آليات مرنة للتعامل مع الظروف المحيطة، بحكمة استراتيجية عرفها ابن القيم -رحمه الله- بأنها «فعل ما ينبغي، على الوجه الذي ينبغي، في الوقت الذي ينبغي».
كما يتحتم على القيادة في زمن الضبابية وضع معايير وتوقعات أداء واضحة أولاً، ثم الوضوح في التعبير عن معايير الأداء، والوضوح في إيصال توقعاتهم لفريق العمل المؤسسي. أما النقيض لذلك سيكون فقدان الثقة وخلق حالة من الإرباك والتسيب المؤسسي.
الرادار الاجتماعي المؤسسي
يقع على عاتق الموارد البشرية -باعتبارها شريكاً مهماً في منظومة إدارة الأداء الاستراتيجي- تنظيم البرامج التدريبية والإثرائية التي تشجع القادة على الإصغاء لفريق العمل، وتلبية احتياجاتهم، واحترام آمالهم وأحلامهم. وإنشاء وحدة يمكن تسميتها وحدة التعاطف المؤسسي أو “الرادار الاجتماعي“، لفهم كيف يشعر الفريق المؤسسي وكيف يفكر، وبما يسمح للقيادة المؤسسية الاتصال بشكل أفضل والاستفادة من تلك الآمال والدوافع وإيصال صورة للمستقبل تحفز الفريق وتجذبهم إليه. وعلى الجانب الآخر، تلك البرامج الإثرائية والتطويرية لطاقم المنظمة مهما اختلفت مستوياتهم المعرفية والمهارية والسلوكية، وحتى مسمياتهم الوظيفية.
وعلى المنظمات – في حالة الضبابية – الانتقال من عقلية “ممنوع الاقتراب والتصوير“ والاجتماعات المغلقة إلى مرحلة العطاء والمشاركة الفاعلة في صنع واتخاذ القرارات، وتوفير بيئة كافية من “الشفافية والوضوح“؛ والشفافية تعني علانية القرار وسهولة الوصول إلى المعلومة، كخطوة مهمة للغاية نحو المساءلة الإدارية الجادة، ومحاربة فساد القرارات الإدارية،
والسعي نحو إحداث تغيير إيجابي بأقل تكلفة وأقل جهد. مع الحرص التام على رص الصفوف وإحداث حالة من الانسجام والتناغم والتكامل بين فريق العمل؛ فاحتكار فئة بعينها للقرارات أو للمعلومات أو الإجراءات (احتكار القلة) لا يساهم إلا في زيادة الضبابية، وتباين التوقعات بين أعضاء الفريق الواحد، وشرعاً (المحتكر خاطئ!).
اليقظة الاستراتيجية:
قد يكون تجنب الأزمات أو المفاجآت المتتالية أو الانعطافات الحادة أو حالة الضبابية في مسيرة المنظمة أمراً صعباً أو شبه مستحيلاً، ولكن يمكن توقعها قبل وقوعها أو إدارتها أو التقليل من مخاطرها. وعلى المنظمة أن تستشعر الإرشادات التحذيرية والذبذبات التي تحيط بها، وهذه الإشارات قد تكون غامضة أو خفية، أو شديدة الوضوح. وبتطبيق قاعدة باريتو، فإن 80% من العقبات التي تعترض المنظمة إنما هي عقبات داخلية، و20% هي عقبات خارجية! وسواء أكانت هذه الإشارات قادمة من خارج نطاق المنظمة أو من داخلها لا بد من قرون استشعار و (رادارات مؤسسية) متقدمة ترصد الفرص الاستراتيجية المتاحة والمتوقعة، وتساعد المنظمة على الاستثمار الأمثل للموارد والإمكانيات المتاحة، وإحداث ما يمكن تسميته بـ (نقطة الانقلاب الإستراتيجي)، وذلك وفق شرطين أساسيين:
(1) وجود قيادة مبصرة (Visionary) تدعم التخطيط وترعاه (Sponsorship) وتقود وتتابع عمليات التنفيذ.
(2) وجود إستراتيجية للمنافسة (Competitive Strategy)، مع منهجية واضحة لتقييم الأداء وتشجيع وتحفيز ثقافة الأصول البشرية (الموهوبون المتميزون الذي يعطون المنظمة قيمة مضافة) والتخلص من الخصوم (السلبيون المترددون المُحبِطون ذوي الأداء المتوسط أو الرديء).
وسواء أكانت الإشارات والذبذبات تنظيمية إجرائية أو مالية أو بشرية أو معلوماتية أو حصة سوقية أو سمعة مؤسسية، فإنه يتوجب على القيادة التقاط هذه الإشارات واستيعابها وتحليلها والتصرف بمسؤولية حيالها، وتجاهل القيادة لهذه التحذيرات قد يجر الويلات والمخاطر الكبيرة التي قد تعصف بكيان المنظمة ككل.
إِذا هَبَّتْ رياحُكَ فاغتنمْها فعُقْبى كلِّ خافقــــةٍ سكــــــونُ
وإِن دَرَّتْ نيـــاقـُكَ فاحتلبْها فما تدري الفَصيلُ لمن يكونُ
وفي زمن الضبابية أو عند حدوث الأزمات، يجب على القيادة التركيز على البناء الداخلي للمنظمة وثقافتها التنظيمية (ثقافة القلعة أو الحصن)، كما يتوجب عليها تبني مزيجاً متوازناً بين (سلطة القرار الاستراتيجي)، و(سلطة التنفيذ التشغيلي) كدافع مهم لعجلة التميز والفاعلية التنظيمية. من خلال وضع مجسات وآليات واضحة لاكتشاف الأخطاء وسرعة تداركها.
الحسم في زمن التردد:
تزداد درجة الضبابية المؤسسية في حالة عدم وضوح الاستراتيجية أو ضعفها أو غياب المعايير والإرشادات اللازمة لتنفيذ الاستراتيجيات، وعند عدم وضوح المسؤوليات وغياب ثقافة المساءلة، وافتقار بعض الطاقم التنفيذي في المنظمة للمهارات الإدارية أو للحكمة القيادية، مع عدم تمكنهم من إقناع الأطراف المعنية بتنفيذ الاستراتيجية في ظل غياب دعم القيادة العليا للتنفيذ وعدم توفر الحوافز التشجيعية أو كفاية الموارد اللازمة للتنفيذ،.
وهنا تظهر الحاجة الماسة إلى إحداث (ثورة تنفيذية) تكون بمثابة ضريبة القيمة المضافة للمنظمات، وعدم الاقتصار على (المكملات الغذائية للمنظمة)، مع تطبيق أسلوب (التخلي المبدع) عن أي منتج أو خدمة أو نشاط أو حتى (موظف) يستنفذ الوقت والموارد المؤسسية. يضاف إلى ذلك جرعة صادمة من التدريب على المساءلة وانتشال فريق العمل من منطقة الاسترخاء ونقلهم إلى منطقة الإنجاز، فطبيعة البشر تميل نحو الأداء المرغوب لا المطلوب في الوضع الطبيعي، ناهيك في الوضع الضبابي.
وعلى القادة الراغبين في نقل مؤسساتهم من حالة الخلل إلى التوازن أن يعيدوا تشكيل أفكارهم من الانشغال بالمشاكل اليومية إلى البحث عن الفرص المتاحة واقتناصها، وإعادة تصويب وتوجيه البوصلة، والنظر إلى المؤسسة ككيان متكامل وليس إلى إدارات منفصلة.
الإدارة بالمعكوس، الإدارة بالتجوال، الإدارة بالمرح:
ويتوجب على القادة – خاصة في حالة الضبابية- تبني ثقافة (الإدارة بالمعكوس)، وعدم الاقتصار على التواصل مع كبار التنفيذيين في المنظمة، بل كسر الحواجز التقليدية للاتصال التنظيمي والانتقال من الفردية إلى إعلاء (البنيان المؤسسي) الحقيقي، وتأصيل ثقافة (الاسمنت الانفعالي) بالتوجه مباشرة نحو فريق المنظمة ككل وإشراكه في صنع واقع ومستقبل المنظمة، والتواصل معهم والإنصات لهم فهم (البئر المؤسسي الذي لا ينضب).
كما ينبغي على القيادة ممارسة (الإدارة بالتجوال) لمعرفة الحقيقة من بيئة العمل (الجمبا)، وعدم الانخداع بعبارة (كل شيء تحت السيطرة). وإضافة اللمسة الشخصية وتبني مبدأ (الإدارة بالمرح) مع توازن ذكي يجمع بين المرونة والصرامة، وجرعة مهمة للغاية من مهارات التوجيه والإرشاد والتيسير (التسهيل)، بما يؤدي إلى تعظيم إحساس أعضاء فريق العمل بالمسؤولية، وتوظيف مبدع لمواهبهم، وصناعات قيادات في مختلف الوحدات الإدارية، مع إدارة حكيمة للوقت وتحديد واضح للأولويات و(تبجيلها)، وحوكمة مؤسسية للاجتماعات، وعدم الانشغال بالأمور الروتينية أو الانغماس في المسلمات التفصيلية أو الجدل الإداري العقيم، والتخلص من سياسة (رمي القرود) (المشاكل)، والبحث عن سلة من الحلول والبدائل لتتمكن من إزالة حالة الضبابية.
كما تحتاج القيادة إلى نشر ثقافة (الرمز القيادي) و(القدوة المنقذة)، وصناعة قوة دافعة يصعب إيقافها أو التراجع عنها، مع وقف فوري لاستنزاف القوى الوجدانية لموظفيها ومحاربة الاحتراق الداخلي لأفرادها، واستثمار طاقاتهم والتشجيع على ثقافة المجازفة واتخاذ القرارات والفشل كجزء لا يتجزأ من ثقافة الإبداع المؤسسي، مع البعد عن سياسة اللوم الدائم وتصيد الأخطاء. وعدم السماح مطلقاً بنشر الثقافة السلبية بين أفراد الفريق الواحد فهم قلبها النابض والدينامو المحرك لكل عملياتها حالياً ومستقبلاً. ولا أجمل من صناعة حالة تصنع التلاقي بين الموهبة والولع!
الثقة.. مكمن القوة:
عندما تصاب المنظمة بحالة الضبابية، أو الإنطفاءات المتكررة في بريق مسيرتها، يزداد الإحساس بالضغط الاستراتيجي والتشغيلي والمالي والنفسي، وتتراجع حينها الكثير من القيم، ويميل البعض إلى الاستخفاف واللامبالاة، وينكفئ أعضاء الفريق على أنفسهم، فيتجنبون بعضهم بعضاً، وتختفي المعلومات المطلوبة، ويتنصلون من المسؤولية، مما يؤدي إلى تفتيت وتآكل الثقة المؤسسية.
وهنا لابد للقيادة من العمل بجدية مطلقة على محو كل مؤشرات غياب روح فريق العمل الواحد وتجديد الثقة بين أعضائها، فلا شيء يساعدها على النهوض من عثرتها وتجاوز أزماتها أكثر من الثقة؛ الثقة بين القيادة وبين الفريق من جهة، وبين أعضاء الفريق الواحد من جهة أخرى. حيث تساعد الثقة على صناعة جواً مفعماً من الإيجابية والفاعلية المؤسسية، التي تتحول بدورها إلى سلوك دائم وثقافة تنظيمية متجذرة في جسم المنظمة. كما تعمل الثقة على صناعة المواهب وإطلاقها، وتمنح أعضاء الفريق قدرة عجيبة على تحمل المسؤولية والتغلب على حالة التشاؤم واليأس التي تنتشر في زمن الضبابية. وعلى القيادة أن تشجع على ثقافة (العصف العقلي)، وفتح قنوات التواصل ووضع الحقائق أمام فريقها، وتدعيم السياسات التي تتيح فرص مشاركة واسعة للجميع، وتخصيص موارد أكثر ودعم أكبر لأصحاب المواهب والمبادرات والابتكارات. وتوجيه طاقة المنافسة السلبية أو العدائية إلى أفعال إيجابية وأهداف واضحة يشارك الجميع في تنفيذها.
ولا تقتصر الثقة على البيت الداخلي للمنظمة بل يتعدى ذلك إلى شبكة الشركاء والمستفيدين، ويتضمن ذلك تحديد واضح لطبيعة العلاقة بين المنظمة وجميع الأطراف المؤثرة والمتأثرة بأعمال المنظمة، والعمل على الانتقال من الجمود المؤسسي إلى برامج الشراكة المستدامة الحقيقية، وتعزيز الشفافية والتواصل الدائم وتوضيح ما يتوجب توضيحه مع المحافظة على بوصلة المنظمة وخصوصية مهامها ومركزها الاستراتيجي.
وختاماً، لابد للقيادة في حالة الازمات أو الضبابية أن تمتلك القدرة على إدارة الاستحقاق المؤسسي، وأن تتحلى بالشجاعة فهي أم الفضائل، مع دبلوماسية تكتيكية و (لوبي مؤسسي). يصاحب ذلك قدراً كبيراً من المرونة والتكيف والبعد عن القوالب الجامدة أو الأنماط الإدارية التي لا تواكب هذه المتغيرات.
*رئيس قسم التسويق والعلاقات الدولية – هيئة التقييس
* دكتوراه في سيكولوجيا التطوير القيادي والمؤسسي