مع التقدم التقني والتنافسية الشديدة وعولمة الاقتصاد، تزداد الأهمية والحاجة للقيادة الفاعلة التي تعتبر الحجر الأساس والمكون الرئيس لنجاح المنظمات، وفي كثير من الحالات اخفاقها وانهيارها!
وعلى الرغم من أن المنظمات تعمل على استقطاب واصطياد أفضل الكفاءات وترصد الكثير من الميزانيات لغرض تأهيل القيادات وتدريبها بهدف الوصول بها إلى الكفاءة والفاعلية والاحتراف المهني، إلا أن العديد من هذه المنظمات تخفق في الوصول الى أهدافها على المدى البعيد.. لماذا؟
هناك فجوة حقيقية بين ما يريده القائد ويفضـله، وبين ما تريده المنظمة وتفضله، والسبب في ذلك يعود إلى الاختلاف بين نمط القائد ونمط المنظمة التي يقودها.
فكما أن لكل قائــد نمطه الذي يميزه ويجعله متفــــــرداً عن القادة الاخرين، يحــــــدد من خلاله طريقة تفاعله مع الآخرين، وكيفية تعلمه وإدراكـــه، وطريقة اتخاذه للقرارات، وأسلوب قيادته وحياته بشكل عام، فإن المنظمة أكثر من مجرد أصول، إنها كائن حي لها كيان وروح وطاقة ديناميكيــــــة، إنها أفـراد وشركاء ومستثمرين ومستفيدين وموردين وبنية تحتية، وهي تختلف في حجمها وتركيبتها التنظيمية وطبيعة نشاطها عن المنظمات الأخرى، وبالتالي حتماً نمطها.
لكن كيف يتشكل نمط المنظمة؟
هناك العديد من العوامل التي تُسهم في تشكيل نمط المنظمة، فالمؤسس، والقيادة الحاليـة، وطبيعة نشاط المنظمة، وتاريخ المنظمة، كلها عوامل تؤثر في تشكيل التفضيلات الطبيعية للمنظمة ونمطها الذي تُعرف به.
إلا أن قائد المنظمة هو العنصر الأهم في هذه العناصر الذي يترك بصمته الواضحة على نمط المنظمة ويؤثر عليه سلباً أو إيجابا.
ومن هنا فإن أي اختلاف بين نمط القائد ونمط المنظمة، بين ما تقوله المنظمة وبين ما تقوم به بالفعل، بين توقـــــعات الشركاء والمستفيدين وبين الواقــــــــع، يؤدي حتماً إلى المخاطرة بسمعة المنظمة وبالتالي انهيارها وإخفاقها على المدى القصير والمدى الطويل.
وتشــر بعـض الدراســات إلى أن المنظمات تتكبد خسائر تتراوح بين 750 ألف دولار ومليون ونصف المليون دولار أمريكي كخســــــــائر مبـاشرة نتيجــة إخفــاق الإدارة التنفيذيــة ( ,De Vries & Kaiser)، وفي دراسـة سابقـة بلغت الخســائر المباشــرة لهذا الإخفاق 2.7 مليون دولار أمريـــكي (1999,Smart) يضاف إلى ذلك خسائر أخرى غير مباشرة لا تقل تكلفة عن المباشرة.
ولقــــــد ركــــــزت الدراسات والأبحاث الحديثــــــــة على العلاقة الوثيقة بين الهوية القيادية والهوية التنظيمية. وبقدر التناغم بين طرفي هذه العلاقة يتحقــــــق التميـــــــز القيادي والتطوير المؤسسي، وبقدر التنافر والاختلاف يكون الفشل.
إن المنظمات بحاجة ماسة اليوم وأكثر من أي وقت مضى إلى القيادة التي تعي منظمتها مما تعي ذاتها، فبقــــــــــدر ما يعــــــرف القائد نمطه القيادي، بقدر ما يسهل عليه معرفة نمط منظمته، وبقدر ما يعرف القائد نمط منظمته بقدر ما يساعده ذلك على معرفـــــــة جوانب القوة والتميز والمنـــــاطق العميــــاء للمنــظمة ودورة حيـــــاتها وأفضـــــــل الممارســــات التي تتبناها في مجــــــال القيادة والإدارة والموارد البشريــــــة والعمل الجماعي واتخاذ القرارات. ومع إدراكه الواعي لكل ما ذُكر تكــــــون النتيــــجة زيادة الفاعلية والرضـــــا والإنتاج الوظيفي وتعزيز الأداء المؤسسي، وكلما ساعد المنظمة على مواكبة متطلبات السوق وتلبية احتياجات زبائنها.
إننا اليوم بحاجة إلى إحداث تغيير جذري في نظرتنا للمنظمات التي نقودها، فلم يعد مجدياً فقط أن نضع الخطط ونرســــــم الأهـــــداف ونُحـــــــدد مؤشــــــــرات الأداء ونقيِّم مستوى التقدم في تحقيقها، ولم يعد مجدياً أن يقتصر بحثنا عن القادة من وجهة نظر السمــــــات والتأهيل المعرفي والمهــــــاري، بل إننا بحاجة إلى القيادة التي تؤمن أن المنظمة إنسان له نمطه في التفاعل والإدراك واتخاذ القرارات وله طريقته في الحزم والمرونة مع السوق والآخرين من حوله. بحاجة إلى القيادة التي تستطيع ملائمة تفضيلاتها القيادية وتفضيلات منظمتها، والقيادة من وجهة نظر المنظمة لا من وجهة نظر القائد.
وبقدر هذا الإيمان، تحصد القيادة والمنظمة وضوح الغرض، والاتساق، والتناغم، في كل العمليات، وتتحقق الشراكــــــــــــة المستدامة مع موظفيها وزبائنــــها وشـــــــــركائها والمستثمرين فيها.
إن نمط المنظمة باختصار وتبسيط هو الحمـض النــووي لها (DNA) الذي يحدد هويتها التي تُعرف به، وثقافتها وممارساتها اليومية، والذي ترسم من خلاله ماذا تكون وماذا تريد وتميل إليه. وقد نجد منظمتين لهما نفس النشاط لكن لهما نمطين مختلفين. فــإذا كان نمط المنظمة الأولى (ISTJ)، على سبيل المثال، فإن ذلك يعني أنها تركز طاقتها على الداخل وليس على الزبائن وأنها تميل إلى الالتزام بالإجراءات واللوائح الإدارية في تسيير أعمالها وتتخذ قراراتها بطريقة عقلانية مبنية على العدل والمنطق ولها أسلوبها الحازم في تحقيق ذلك. أما إذا كان نمط المنظمة الأخرى (ENFP) فإن ذلك يعني أن المنظمة تستمد نشاطها وطاقتها من السوق وتدرك العالم من حولها بشكل إبداعي وتتخذ قراراتها بناء على القيم والمُثل العليا التي رسمتها لنفسها وأنها تؤمن بالتغيير وتـتلاءم مع متغيرات السوق من حولها بما يحافظ على كيانها.
بل إن الأمـر لم يعد مقتصراً على مستوى نمط المنظمة ككل، بل حتى على مستوى إدارات وأقسام المنظمة ووحداتها الإدارية. فلكل منها نمطه الذي تفضله وتميل إليه. فقسم التسويق له نمطه الذي يجعله مختلفاً عن قسم المالية مثلاً، وهكذا.
إنها دعوة لكل المهتمين من القادة والباحثين والمفكرين للتأمل ملياً في هذه الثنائية الرائعة ومناقشتها وتطويرها.
وهي دعــــــوة للمختصين في الموارد البشرية لإعادة النظر في الأدوات التي يتم بموجبها اختيار القيادة العليا والإدارة التنفيذية، فلم تعد السير الذاتيـة المنمقة، ولا سنوات الخبرة المكررة، هي معيار الاختيار، بل إن هــــناك معايير أخرى تنتظر المنظمة توفرها فيمن يقود سفينتها إلى بر الأمان، لأنها إنسان وحسب!
*دكتوراه في سيكولوجيا التطوير القيادي والمؤسسي .