الملوثات الأبدية

م. راشد عيسى

في الآونة الأخيرة ازداد الاهتمام من قبل القطاعات الحكومية وغير الحكومية والمراكز البحثية الخاصة بسلامة المنتجات وحماية البيئة بمجموعة مركبات (الألكيل المشبعة بالفلور والبولي فلور) الكيميائية التي تعرف باللغة الإنجليزية (PFAS: Per- and Polyfluoroalkyl Substances)، وهي مجموعة من المركبات الكيميائية لها خصائص كيميائية وفيزيائية تجعل منها خيار مثالي يُستخدم في مجموعة واسعة من الأنشطة والتطبيقات إذ تتميز هذه التركيبات بالقوة والقدرة على المقاومة والثبات الكيميائي (عدم التحلل بشكل طبيعي) بسبب طبيعة الرابطة الكيميائية بين ذرات الكربون والفلور التي تعد من أقوى الروابط الكيميائية.

حيث تم البدء في استخدام هذه المركبات الكيميائية منذ أربعينيات العقد الماضي ومع التقادم في الزمن اتسعت مناحي استخداماتها الصناعية ليصل عدد التركيبات منها إلى أكثر من 10,000 مركب كيميائي تستخدم في نطاقات واسعة على مستوى المنتجات لتعزيز مقاومتها للحرارة العالية أو الحماية من المياه أو استخدامها في التشحيم (تقليل الاحتكاك).

ويوضح الشكل أدناه أبرز المنتجات الاستهلاكية التي تحتوي على هذه الملوثات:

 (شكل 1: أبرز المنتجات التي تحتوي على الملوثات الأبدية)

ووجدت الدراسات أن تعرض البشر لمستويات معينة من أغلب هذه المركبات قد يتسبب في الإصابة بأنواع عديدة من السرطانات كسرطانات البروستات والكلى، كما قد تُسبب بزيادة نسب الكولسترول والتسبب في أمراض السمنة، وكذلك قد تسبب في التأثير السلبي على مناعة جسم الإنسان الطبيعية، بالإضافة إلى أنها قد تتسبب بمشاكل تصل إلى الخلل والاعتلال في النمو الطبيعي لدى البشر، وبذلك تُعرف هذه المواد على أنها ملوثات واسعة الانتشار أو ملوثات أبدية.

ولفهم حجم الكارثة التي تتسبب بها هذه الملوثات الأبدية ((PFAS لا بد من استحضار الحقيقة العلمية الثابتة أن هذه المركبات بطبيعتها سامة وتركيبها ثابت، أي لا تتحلل، وتبقى كما هي وتتراكم مع تقادم الزمن. وتنتشر هذه الملوثات في البيئة عن طرق متعددة كالتخلص المباشر منها في البيئة وكذلك تنتشر هذه الملوثات عن طريق الانبعاثات بشكل مباشر من المصانع في الجو أو التسرب من مكبات النفايات إلى التربة والمياه السطحية أو الجوفية، ولنأخذ منتج طفايات الحريق كنموذج في نشر هذه الملوثات، إذ في الغالب تحتوي الرغوة الخاصة بمكافحة الحرائق على هذه الملوثات، فيمكن أن تنتقل للجو وتبقى في الهواء عند استخدامها لمكافحة أي حريق، ومن الممكن بعد ذلك أن تتبخر لتنتقل بصورة سائلة لسطح التربة أو المياه السطحية لتصل إلى المياه الجوفية!! وبعد انتشارها في المياه أو وصولها إلى مصادر الغذاء!! يمكن أن تصل إلى الإنسان حيث قد تتراكم في الجسم، إذ أظهرت فحوصات طبية وصول هذه المركبات إلى دم الإنسان بشكل ينتج عنه الإصابات والتأثيرات الصحية التي ذكرت سلفاً في هذا المقال.

ويوضح الشكل المبسط أدناه دورة حياة الملوثات الأبدية (PFAS) في البيئة:

(شكل 2: شكل مبسط لدورة حياة الملوثات الأبدية)

وفي دولٍ كالسويد أو الولايات المتحدة تم رفع عدد من القضايا من قبل جهات حكومية أو أفراد (أشخاص أو جماعات) ضد شركات إمداد ومعالجة وتصنيع المياه بسبب تلويث إمدادات المياه بهذه المركبات الكيميائية، ومن القضايا المهمة التي جذبت الاهتمام بأهمية تشديد التشريعات المتعلقة بهذه التركيبات الكيميائية، هي القضية التي تقدمت بها بلدية أوميا في السويد ضد شركة معالجة المياه (Nordic Water) حيث ادعّت بلدية أوميا أن الشركة تسببت في أضرار صحية من خلال تلويث إمدادات المياه المحلية بالملوثات الأبدية (PFAS) وبذلك توصلت المحكمة إلى تسوية بين المدعي (البلدية) والمدعى عليه (شركة معالجة المياه) لدفع ما مقداره 2 مليون دولار أمريكي للتكاليف الخاصة بتنظيف إمدادات المياه.

ولاتزال العديد من القضايا قيد المداولة بشكل مطول في محاكم عديدة نتيجة للفراغ التشريعي في هذا الجانب وللصعوبات الفنية في تحديد المسؤولية المباشرة عن انتشار هذه الملوثات في المياه أو التربة أو الجو، وكذلك لصعوبة قياس الآثار السلبية (طويلة الأمد) الناتجة عن هذه الملوثات، إذ تمت تسوية مجموعة دعاوي قضائية رُفعت بمدينة باركتون بولاية فيرمونت في الولايات المتحدة الأمريكية ضد شركة DuPont بسبب تلويث إمدادات المياه بالملوثات الأبدية (PFAS) بقيمة إجمالية بلغت 671 مليون دولار تدفع لتسوية عدد ليس بقليل من الدعاوي.

ومن جانب آخر، يمكنني القول إن الحراك العلمي والبحثي والتقني في هذا الجانب لم يبلغ الذروة إذ أن جزء من هذه التركيبات الكيميائية معروف وجزء غير معروف، وجزء يمكن قياسه بسهولة وجزء من الصعوبة بمكان قياسه، وجزء تم تحديد عواقبه الصحية وجزء آخر على النقيض. ومن جانب تقني، وبعد انتشار وتشبع المصدر (الهواء أو المياه أو التربة) بهذه الملوثات فمن الصعب حذفها أو إزالتها كشوائب فالتقنيات محدودة وبعضها مكلف أو غير عملي على نطاق واسع.

ونجد أن الحراك التشريعي للتقنين والحد من استخدام الملوثات الأبدية قائم على مستوى دولي وإقليمي ومحلي نظراً للزيادة في حجم الدراسات والقياسات التي تُنفذ والخطط التي تعمل عليها جهات عديدة في الآونة الأخيرة، إذ تعهدت المفوضية الأوروبية بالتخلص التدريجي من جميع الملوثات الأبدية (PFAS)، وفي دول عديدة كالولايات المتحدة وأستراليا والدنمارك وألمانيا تم حظر استخدام بعض الملوثات الأبدية (PFAS) في عدد محدود من المنتجات كطفايات الحريق أو السجّاد أو مستحضرات التجميل. كما نجد أن منظمة الصحة العالمية (WHO) وضعت توصيات للحدود المسموحة بهذه الملوثات في المياه مع مرونة عالية في إعادة دراسة هذه التوصيات بحسب المعطيات العلمية.

كما نجد أن الوكالة الأمريكية لحماية البيئة (EPA) قطعت شوطاً كبيراً في سد الفجوة المعرفية لدعم إجراء البحوث للوصول إلى تصورات شاملة تجاه قضية الملوثات الأبدية (PFAS) والخروج بمجموعة توصيات تحدد المستوى الأقصى المسموح به في استخدام هذه الملوثات وقياس مستوى المخاطر وكذلك بحث أنجع التقنيات الخاصة بإزالة هذه الملوثات كتقنية الفحم النشط أو تقنية التناضح العكسي أو تقنية تبادل الأيونات (الشحنات).

ومن منظور متواضع فإن الفرصة التشريعية لإحكام الرقابة على الملوثات الأبدية (PFAS) بمجموعة تشريعات خليجية موحدة ومتكاملة مواتية، إذ حان الوقت للمواكبة في الحد من استخدام هذه الملوثات والخروج بخارطة تشريعية لتقليل وتقنين استهلاك واستخدام الملوثات الأبدية (PFAS) كوضع حدود قصوى يُسمح من خلالها استخدام هذه التركيبات، ومن ثم الحد منها بشكل تدريجي (على مراحل) لضمان التجاوب الإيجابي مع هذا النوع من التشريعات من قبل المصنعين وليساهم في التشجيع على استخدام البدائل الآمنة والقابلة للتحلل من هذه التركيبات، وتحفيز استخدام التقنيات الخاصة بتنظيف وإزالة الملوثات الأبدية (PFAS) من وسائط مختلفة.

* هيئة التقييس لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية

Comments (0)
Add Comment