أصبح التغير المناخي وطرق التقليل من آثاره من أهم وأكبر التحديات التي تواجه البشرية جمعاء ومن أولويات كل الدول والمنظمات والشركات، حيث تُعقد المؤتمرات والاجتماعات وتحدد الأجندات والأهداف للتقليل من الانبعاثات الغازية وتحقيق الحياد الكربوني.
إن التغير المتسارع بطبيعة الصناعات والاقتصاديات والانتقال المتسارع من العالم الفيزيائي إلى العالم الرقمي (أو ما يمكن تسميته اصطلاحاً بالعالم “الفيزرقمي” المكوَّن من مزيج من العالم الفيزيائي والرقمي) والانتقال إلى الثورة الصناعية الرابعة والذكاء الصناعي وإنترنت الأشياء، كل ذلك يدفعنا إلى أن نقف ونسأل أنفسنا، هل السياسات والمواصفات التي كانت متبعة للتقليل من أثر التغير المناخي وتحقيق الاستدامة في العالم الفيزيائي ستكون مجدية وتحقق الأهداف المرجوة منها في العالم “الفيزرقمي”؟
للإجابة على هذا السؤال، أولاً وقبل كل شيء يجب أن ندرك أن الاستدامة في العالم الفيزيائي هي مفهوم ظهر في سبعينيات القرن المنصرم بسبب الاستهلاك غير المستدام والمتسارع للموارد البيئية، وعرفت الاستدامة على أنها “تلبية احتياجات الأجيال الحالية دون المساس باحتياجات الأجيال القادمة، مع ضمان التوازن بين النمو الاقتصادي والرعاية البيئية والرفاه الاجتماعي”، ولاحقا وفي عام 2015م تم تبني أهداف التنمية المستدامة من قبل الجمعية العامة للأمم المتحدة والتي تتكون من 17 هدفاً محدداً تمثل خطة لتحقيق مستقبل أفضل وأكثر استدامة للجميع.
و لكن هل مفهوم الاستدامة بما يشمله من مواصفات وسياسات والذي ظهر في العالم الفيزيائي كما ذكرنا ما زال صالحاً في العالم “الفيزرقمي”؟ أم أننا بحاجة لمفهوم جديد ما وراء الاستدامة وإلى مواصفات جديدة تخدم هذ المفهوم؟
قبل الانتقال لمفهوم ما وراء الاستدامة في العالم “الفيزرقمي” يجب فهم هذا العالم أولاً. إن هذا العالم يتكون من أجهزة متصلة ببعضها البعض وتتخاطب فيما بينها دون تدخل الإنسان، وتقوم فيه الشركات بتقديم منتجاتها وخدماتها في عالم افتراضي (ميتافرس) دون وجود فيزيائي للشركة أصلا أو دون التواصل الفيزيائي مع المستهلك، ويتم الدفع مقابل هذه المنتجات والخدمات عن طريق العملات الرقمية المشفرة من خلال تكنولوجيا سلسلة الكتل (بلوك تشين) ولاحقاً سيقوم الذكاء الصناعي بمهام كان يقوم بها الإنسان، وكل هذه الأمثلة توضح أن العالم الفيزيائي الذي نعرفه اليوم والذي ظهر فيه مفهوم الاستدامة قد تغير ونحن بحاجة ملحة لتطوير مفهوم جديد ومواصفات ولوائح فنية جديدة تخدم أهداف الاستدامة في العالم “الفيزرقمي”.
إن هذا المفهوم الجديد للاستدامة هو مفهوم يدعى “ما وراء الاستدامة” حيث إن التكنولوجيا تلعب الدور الرئيسي لخلق الرخاء الاقتصادي من خلال الاستخدام الأمثل للموارد الطبيعية، والتركيز على الموارد المتجددة، وتقديم حلول تقنية جديدة لم تكن متوفرة في العالم الفيزيائي، والتي تهدف في النهاية إلى تعزيز الاستدامة والرفاهية للبشرية، ولكن لتلعب التكنولوجيا دورها الإيجابي في مفهوم ما وراء الاستدامة يجب أن يتم استخدامها بشكل أخلاقي يعزز النمو الاقتصادي، ويقلل من الآثار السلبية لهذه التكنولوجيا على المجتمع والموارد البيئية.
إن ما وراء الاستدامة يحث الشركات على تحقيق التربح الأخلاقي عند تبني التكنولوجيا في العالم “الفيزرقمي” لتحقيق النمو الاقتصادي وتحقيق العدالة الاجتماعية.
ولتطبيق مفهوم ما وراء الاستدامة يجب أن تلعب المواصفات دوراً محورياً وعدم ترك الباب مفتوحاً لاستخدام التكنولوجيا بشكل يهدف فقط إلى التربح المادي مع إهمال الأثر السلبي لتلك التكنولوجيا على البيئة، وكذلك على الإنسان.
إن الكثير من الدول حالياً تعتمد لوائح ومواصفات تخدم أهداف ثلاثية (البيئة، المجتمع والحكومة) وأصبحت الكثير من الشركات ملزمة بإصدار تقارير دورية لتبين مدى إلتزامها بهذه المتطلبات ولتبين أن استثماراتها تعود بالنفع المادي على الشركة، إضافة إلى النفع المجتمعي والبيئي على حدٍ سواء.
إن التحول إلى العالم “الفيزرقمي” أصبح حتمياً وعليه فإن المواصفات يجب أن تأخذ دوراً فاعلاً بتنظيم هذا التحول وتمكين مفهوم ما وراء الاستدامة إما بتضمين متطلبات تخدم أهداف ما وراء الاستدامة بشكل مباشر في المواصفات أو إصدار المواصفات بطريقة جديدة مختلفة تماماً عما اعتدنا عليه في العالم الفيزيائي.