ثقافة التقييس.. ركيزة الوعي والجودة

م. دعاء يوسف المضاحكة

من خلال تجربتي واهتمامي في مجال التقييس، أدركت بوضوحٍ أن المواصفات القياسية ليست مجرد وثائق فنية تُعتمد داخل المؤسسات، بل هي جزء أساسي من جودة حياتنا اليومية.

وفي كل مرة أتعامل فيها مع منتج أو خدمة، أتساءل: هل كان بالإمكان تجنب هذا الخلل أو تحسين هذا المنتج لو كانت ثقافة التقييس منتشرة بشكل أوسع؟
هذا السؤال كان دافعاً لي للكتابة حول أهمية نشر ثقافة التقييس، خاصة وأن المنظمة الدولية للتقييس (ISO) تؤكد في العديد من مبادراتها أن المواصفات القياسية ليست مجرد أداة فنية، بل أساس لجودة الحياة وتعزيز الثقة في المنتجات والخدمات. ومع تزايد اعتماد الدول والمؤسسات على المواصفات القياسية الدولية في تطوير عملياتها، أصبح نشر ثقافة التقييس في المجتمع حاجة ملحّة لضمان التطوير المستمر ورفع مستوى الجودة وخلق بيئة أكثر وعياً وكفاءة.

التقييس.. أساس جودة ما ننتجه وما نستهلكه
أصبحت لدي قناعة راسخة بأن جودة المنتج لا تعتمد فقط على الامكانيات التقنية، بل على مدى التزام المؤسسة بتطبيق مواصفات قياسية واضحة ومعايير معتمدة ومعترف بها.

فالتقييس يمنحنا آلية ثابتة يمكن من خلالها ضمان جودة أعلى وتقليل الأخطاء والهدر، وكلما اتسعت دائرة الوعي بهذه الثقافة ارتفع مستوى الثقة لدى المستهلك في المنتجات والخدمات المقدمة إليه.

قيمة اقتصادية لا يمكن تجاهلها
من واقع المتابعة والاطلاع، يتضح أن التقييس يُسهم بشكل مباشر في دعم الاقتصاد الوطني عبر خفض التكاليف وزيادة القدرة التنافسية للمنشآت، ومع تطبيق المواصفات القياسية واللوائح الفنية الخليجية بين دول مجلس التعاون يصبح دخول المنتجات إلى الأسواق الإقليمية والعالمية أكثر سلاسة، مما يعزز فرص النمو والاستثمار، ويفتح آفاقاً أوسع للتجارة البينية.

سلامة المجتمع تبدأ من منتج مطابق للمواصفة
إن نسبة كبيرة من الحوادث اليومية أو المشكلات الصحية أو البيئية قد يكون سببها منتجات غير مطابقة للموصفات القياسية واللوائح الفنية المعتمدة، لذلك فإن نشر ثقافة التقييس يمثّل حماية مباشرة للمجتمع، وكلما كان المستهلك واعياً بأهمية المواصفات ازدادت قدرته على اتخاذ قرارات شراء صحيحة، ما ينعكس إيجاباً على سلامته وسلامة أسرته.

التقييس محفز للابتكار وليس عائقاً له
قد يعتقد البعض أن المواصفات القياسية تحد من الإبداع، لكن التجارب العالمية أثبتت عكس ذلك، فالتقييس يوفر أرضية مشتركة للابتكار ويسهل تطوير منتجات وتقنيات جديدة قابلة للتطبيق والانتشار، وفي ظل التطورات المتسارعة في مجالات التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي، تزداد الحاجة إلى مواصفات تدعم الابتكار وتضمن انسجام التقنيات الجديدة مع احتياجات المجتمع.

المسؤلية مشتركة لنشر ثقافة التقييس
إن نشر ثقافة التقييس لا يتحقق عبر جهة واحدة، بل يتطلب شراكة مجتمعية واسعة تشمل المؤسسات التعليمية والجهات الحكومية والقطاع الخاص والإعلام، وحتى الأفراد أنفسهم، وهذا يجعل من التوعية بالتقييس عملية مستمرة تحتاج إلى مبادرات وبرامج تدريبية وحملات موجهة لتعزيز هذا الوعي وترسيخه.

هيئة التقييس الخليجية
تشكل هيئة التقييس الخليجية مساحة تعاون تجمع دول مجلس التعاون حول هدف واحد وهو: بناء بيئة معيارية متقاربة تدعم جودة الحياة في منطقتنا، وما يميز هذه الهيئة أن عملها لا يقتصر على إعداد المواصفات القياسية واللوائح الفنية وتطبيقها فحسب، بل يمتد إلى خلق روح مشتركة بين الدول الأعضاء تقوم على تبادل الخبرات وتوحيد الرؤية تجاه سلامة المنتجات وجودتها.

وتأتي دولة الكويت ضمن الدول الأعضاء المشارِكة بفعالية في أنشطة الهيئة، وتسهم بخبراتها في تطوير المواصفات الخليجية وفق احتياجات المجتمع والسوق، ومع هذا التعاون الإقليمي المستمر أصبحت الهيئة جزءاً مهماً من رحلة الارتقاء بالممارسات المعيارية في الخليج، وداعماً أساسياً لثقة المستهلك وتكامل الأسواق.

ختاماً.. إن نشر ثقافة التقييس هو استثمار طويل الأجل في جودة الحياة، وفي حماية المجتمع، وفي بناء اقتصاد قوي قادر على المنافسة عالمياً.
وأنا على يقين بأن التوعية بثقافة التقييس سيحدث فرقاً حقيقياً، ليس فقط على مستوى الإنتاج والخدمات، بل أيضاً في تعزيز فهم أفراد المجتمع للجودة وأثرها المباشر في حياتهم اليومية.

فالتقييس ليس مجرد إجراءات.. بل هو مسؤولية مجتمعية وفكر تنموي يرتقي بأفراد المجتمع ويقودهم نحو مستقبل أكثر أماناً وكفاءةً وازدهاراً.

Comments (0)
Add Comment