أول ما يتبادر إلى ذهن من يقرأ عنوان هذا المقال هو مواصفات الأغذية التي يعلم الكثيرون أن الهدف الرئيسي من وضعها هو التأكد من أن ما يتناوله الناس من مأكولات طازجة أو مجففـــة سواء كانت مغلفة أو معلبة أو مجمدة لا تتضمن ميكروبات ممرضة أو مــواد كيماوية ضـــارة بصحة الإنسان.
كما يلاحظ الكثير من المستهلكين أن مكونات أي غذاء تُكتب على العبوة بطريقة معينة توحي بأن هناك قواعد محددة لتوضيح تلك المكونات.
وكل هذا صحيح، ولكن الأغذية ليست المجـال الوحيد الذي تلعب فيه المواصفات القياسية دوراً رئيسياً لحماية صحة البشر.
ونتناول في هذا المقال بعض المواصفات القياسية الهامة للأغذية، كما نوضح أن هناك الكثير من المواصفات القياسية في مجالات أخرى غير غذائية تهدف أيضاً لحماية صحة الناس.
بعض المواصفات القياسية الهامة للأغذية
من المعلوم أن المزارع المتخصصة في إنتاج المواد الغذائية تستخدم الكثير من المواد الكيماوية لمكافحة الحشرات والآفات، والخطر كل الخطر هو أن تتسرب بعض تلك المــواد الكيماوية إلى المواد الغذائية الناتجة. وتحدد لجـنة دستور الأغذية (1) الحـدود القصوى المسمــوح بها لتلك المواد في المواصفة القياسية التي أصدرتها اللجنة بعنوان “الحدود القصوى لبقايـا المبيدات في الأغذية والمحاصيل الغذائية”، وهناك عدد من الوثــائق المساعدة التي وضعتها اللجنـة تتناول طرق سحب العينات والجـزء الذي تسحب منه والممارسات السليمــة في مختبرات التحليــل واستخــدام التحليل الطيفي وغير ذلك مما يحقق الوصول إلى نتائج تعكس بدقة واقـع الأغذيـة المختبرة.
كما تستخدم معظم شركات الإنتاج الحيواني الأدوية البيطريـــة والهورمونـات لتعجيـل نمو الحيوانات وزيـادة وزنهـا. والمشكلة هنا هي أن بعض تلك الأدوية والهورمونات تبقى في الحيوانات المعدة للاستهلاك الآدمي، وقد تكـون لها آثار ضارة على صحة المستهلك الـذي يجهل بالطبع وجودهــا. وقد وضعت لجنة دستور الأغذية وثائــق تحـدد الأدويــة البيطريــة والهرمونات الضارة بالإنسان، والحدود القصوى المسموح بها لبقاياها في المنتجـات الحيوانية وكيفية ضبطها.
وبالإضافة إلى ذلك فإن لجنة دستور الأغذيـة قد أصدرت أكثـر من 300 مواصفـة قياسية لمنتجـات غذائية مختلفة منها، على سبيل المثال لا الحصر، البرتقال والعنب والتمر والزيتون والبازلاء والسبانخ والأرز والشعير وأنواع الدقيق واللحوم والأسماك وعسل النحل.
ومن جهة أخرى فإن المنظمة الدولية للتقييس (أيزو) نشرت مجموعة من المواصفات القياسية المعروفة تحت الرقـم ISO 22000 توفر إرشادات لمؤسسات إنتاج الأغذيـة تتناول مختلف المراحل التي يمر بها الغذاء بدءاً من المواد الخام ومروراً بتصنيع الغذاء وتعبئـته وتخزينـه وتوزيعه بما يضمن جودة الغذاء الذي يتناوله المستهلك. كما أن اللجنة الفنية 34 لمنظمة الأيزو – “المنتجات الغذائية” أعدت نحو 870 مواصفة قياسية لمختلف أنواع الأغذية وطرق اختبارها تـم نشرها بالإضافــة إلى 125 مواصفة قياسية أخرى تحت التطوير.
مواصفات المحاقن والإبر الطبية أداة هامة لضمان الصحة
طبقاً لإحصائيات منظمـة الصحـة العالمية فإن 16 مليــار حقنة يتم إعطاؤهــا سنويـاً في العالم. وتضمن المواصفات القياسية التي أعدتها اللجنـة الفنية 84 للمنظمـة الدوليـة للتقييس “أيـزو” (2) أن المحاقن والإبر تُصنع وتُعقم بما يضمن استخدامهـا للهـدف المعــدة من أجلــه دون تعريـض صحـة المرضى لأي خطر. وقد أعدت تلك اللجنة مواصفات دوليــة تم نشرهــا لإبر الحقن المعقمة وحيدة الاستخدام، وللمحاقــن المعقمــة وحيــدة الاستخـدام اليدويــة والكهربــائية وذات الجرعــة الثابتـة ولمحاقن الإنسولين ولمحاقـن القلم ولأبر القسطـرة في الوريــد وتحت الجلـــد ولأجهــزة قسطــرة قنوات مجرى البول من الكلى ولأجهـزة الإطعام والكثيـر غيــر ذلك. كمـا تواصل اللجنة الفنيــة عملهــا لإعــداد المواصفات القياسية للأجهــزة الأخــرى المستحدثة مثل الإبـــر ذات الطرفيــن والأجهـزة المركبـة على الجسم.
وقد تُوج الجهد الكبير الذي بذلته اللجنة الفنية 84 بمنحها جائزة أفضـل لجنة فنية في منظمة الأيزو في العام الماضي 2019م. وقام رئيس منظمة الأيزو بتسليم الجائزة لرئيس اللجنة الفنيـة وأمينتها من هيئة المواصفات لمملكة الدنمارك.
مواصفات الأيزو في المجالات الطبية الأخرى
ليست المحاقن الطبية هـي المجـال الطبي الوحيد الذي تنشر الأيزو فيـه مواصفـات دوليــة. فقــد أولت الأيزو الاهتمام مبكراً بجودة المعدات الطبية وأصدرت المواصفـة القياسية الدوليــة ISO13485 – إدارة جودة المـعدات الطبيــة عام 2003 وقد تمت مراجعتها عام 2016. وتوفر المواصفة إرشادات لصناع المعــدات الطبيــة في مجــال تصميم وإنتــاج وتركيب وصيانة تلك المعــدات. كما أصدرت الأيــزو المواصفــة القياسية الدوليــة ISO 14971 – “تطبيق إدارة المخــاطر علــى المعدات الطبيــة”. وتهدف هذه المواصفة إلى تحديد المخاطـــر التي يتعرض لها استخدام المعـــدات الطبيـة وكيفية تجنبها.
ونظرا للدور المحوري الذي يلعبه الممـرضون والممرضات في رعاية المرضى حتى يصلــوا إلى الشفاء الكامل، فقد أعدت اللجــنة الفنيــة 203 لمنظمــة الأيــزو “إدارة منظمــات الرعــاية الصحية” وثيقة بعنوان “جــودة التعليــم الإكلينيكي للمحترفين في المجال الطبي”، وتركــز هذه الوثيقــة على التدريب العـلي لهــؤلاء العاملين الذين تصل نسبة الممرضين والممرضات بينهم إلى أكثر من النصف، كما أعدت نفس اللجنة الفنية مواصفة بعنوان “إرشادات لتعييـن وتدريب الممرضين بما يضمن تركيز الاهتمـام على المريض”.
وقد ركزت المنظمة الدولية على فئتين من المعرَّضين للإصابة أكثر من غيرهم هما العاملـون الذين يتعرضون للإصابة في مكـان عمـلهم والمسنين.
وقد أصدرت الأيــزو المواصفة ISO 45001 – إدارة الصحة والأمــان المهني” وتهــدف إلى تقليل الإصابات والأمراض الناتجة عن العمل حيث تقول منظمــة العمـل الدوليــة أن نحـو 2.8 مليون وفاة ناتجة عن العمل تحدث في العالم سنويا، بالإضافة إلى 374 مليون إصابة عمل غير قاتلة.
ويجري حالياً إعداد مواصفة قياسية جديدة تحت عنوان ISO 23536 – الرعاية الإلكترونية للمسنيــن في المنازل”، وتهدف إلى تحديد متطلبات النظم التي تتابع حـالة المسنين في منــازلهم وتقوم بإبلاغها لمن يقومون بتقديم المعونة اللازمة لهم بما يضمن استمرار تلك النظم في عملهـا في جميع الظروف.
كما أن هناك لجاناً فنية دولية لمنظمة الأيزو تعمل في مجـالات طبية أخرى منها تعقيم المعدات الطبية، وطب الأسنــان، ونقل الدم، ومعدات التخديــر والتنفس، ومــواد تصنيع آلات الجراحـة. وقد أعدت اللجنة الفنية 198 المواصفة ISO 11137 – تعقيم المعدات الطبية” من ثلاثة أجـزاء تتناول تعقيــم المعــدات الطبيــة بواسطة الإشعاع باستخدام الكوبالت أو مولــدات الإلكترونــات أو الأشعة السينية، كما تعمل نفس اللجنة الفنيـة على إعــداد مواصفــات قيــــاسية حــول التعقيم بواسطة بيروكسيد الهيدروجين (ماء الأكسيجين)، وأكسيد الإثيلين، والفورمالدهيد، والبخار عند درجـات الحـرارة المنخفضة.
وفي مجال طب الأسنان أصدرت الأيـــزو أكثر من 320 مواصفة قياسية دولية تتناول آلات جراحــة الأسنان والمواد المستخدمة في أخذ طبعة الأسنان ومواد الحشو والأسنان الصناعية وكــراسي ومناظير طب الأسنان.
أما في مجال نقل الدم فقد أعدت “اللجنة الفنية 76 – أجهزة نقل ومعالجة الدم” نحو 80 مواصفة في المجالات المختلفة مثل المعدات الزجاجية لنقـل الــدم والمعدات والأكيــاس المصنوعة مـــن البلاستيك، ومعـــدات أخــذ عينات الدم، ومعدات نقـل الدم، والمعدات المصنوعة من الألومنيوم وغير ذلك.
وفي مجال معدات التخديــر والتنفس أعدت “اللجنــة الفنيــة 121- معــدات التخــدير والتنفس” لمنظمة الأيزو أكثر من 100 مواصفة تتناول ماكينات التخديــر، ووصلات التنفس، ومعــدات توفير الغازات الطبية، وآلات الشفط.
وقد أعدت اللجنة الفنية 212 لمنظمة الأيزو “مختبرات التحليـــل الطبي والتشخيص المعمــلي” مواصفتين في مجال التحديد الكمي للعينات البيولوجية، وجــاري إعــداد 18 مواصفــة أخــرى لاختبارات اللعاب، والدم، والبلازما، والأنسجة المجمدة، والأحماض النووية، والاختبار الذاتي لتخثر الدم.
ولدى اللجنة الفنية 215 لمنظمة الأيزو “المعلوماتية في مجـال الصحة” برنـــامج حافل يتضمن تبادل المعلومات الطبية بين الأجهزة وأمانها، وقراءة البيانات الموضحة على عبـوات الأدويـــة بواسطة الكومبيوتر، والمبادئ المتعلقة بالموافقة على جمــع واستخدام والإفصاح عن البيانـــات الصحية الشخصية، وترقيم تلك البيانات، وأسلوب التعرف على المريض، والمؤشرات العصبية والجسدية، وبيانات أجهزة فحص العيــن، والفحص بالمناظير، وحفظ البيانات الصحية للمرضى في السحابة المعلوماتية والكثير غير ذلك.
ويدل ما ذكرناه عن المواصفات القياسية التي أصدرتها المنظمات الدولية للتقييس في المجالات المتعلقة بالصحة على الوضع المتميز الذي تتمتع به تلك المواصفات بين المجالات المختلفة التي يتناولها التقييس عالميا.
ويؤكد هذا الوضع المتميز عدد اللجان الفنية لمنظمة الأيزو التي تُعد مواصفات قياسية متعلقة بالصحة. فبالإضافة إلى اللجان التي سبق ذكرها فيما تقدم، يمكــن أن نذكر أيضاً اللجــان الفنيــة لمنظمة الأيــزو أرقام 217 – مستحضرات التجميل، و249 – الطب الصيني التقليدي، و276 – التكنولوجيا البيولوجية، و304 – إدارة منظمات الرعاية الصحية، و314 – مجتمعات المسنين، وكل تلك اللجان تتناول موضوعات صحية بشكل مباشر أو غيـر مباشر.
ليس الاهتمام الذي أولته منظمات التقييس الدولية بالموضوعات الصحية مستغرباً، والواقع أنه يعكس اهتمام المجتمع في الدول المتقدمة بتلك الموضوعات، ومن المهم أن تولي الدول النامية نفس الاهتمام بتلك الموضوعات، وأن تستفيد من الخبرات الثمينة المركزة في المواصفـات القياسية الدولية لتطبيقها لخدمة صحة مواطنيها، خاصة في ظروف انتشار أمراض وأوبئة جديدة مثل فيروس كورونا المستجد.
وللدول النامية الحق في تبني المواصفات القياسية الدولية وإصدارها كمواصفات وطنية ما دامت الدولة عضواً في المنظمة الدولية المصدرة للمواصفة المعنية.
وبالنسبة للدول التي تشترك في منظمات إقليمية مثل هيئة التقييس لدول مجلس التعاون لدول الخليج العربية، فإن المنظمة الإقليمية تلعب دوراً هاماً أولاً في تعريف الدول الأعضاء بالمواصفات الدولية الهامة بالنسبة للإقليم، ثم في إعــداد ترجمة أمينة للمواصفة القياسية الدولية باللغة المستعملة في الإقليم بحيث تخرج المواصفة في ترجمـــة دقيقــــة وموحــدة لجميع الــدول الأعضاء.
1) لجنة شكلتها منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة
2) اللجنة الفنية “معدات حقن المستحضرات الطبية والقسطرة”
* مدير برنامج الدول النامية بمنظمة الآيزو (سابقاً)، وخبير استشاري حالياً.