الاقتصاد الدائري.. المختبر الحقيقي للمواصفات

م. راشد عيسى

مع التطور الاقتصادي والصناعي الذي نشهده في القرن الحالي، دخل الإنسان في مرحلة “الاستهلاك” بعد مرحلة “الاستخدام” فكان آباؤنا وأجدادنا في سالف الزمان “مستخدمين” ونحن في وقتنا الحالي أصبحنا “مستهلكين”.

في السابق كان آباؤنا وأجدادنا يستخدمون سفرة الطعام المصنوعة من سعف النخيل لوضع الطعام وافتراش الأرض ثم تناول الطعام عليها لمراتٍ عديدة أما اليوم فنحن نستهلك المفارش البلاستيكية مرة واحدة فقط عند تناول كل وجبة ومن ثم نستغني عنها لتصل إلى القمامة بعد استهلاكها بشكل مباشر.

ومن مدة ليست ببعيدة عندما تتمزق الملابس أو الحقائب نذهب بها لحرفيّ الخياطة لكي يقوم بتصليحها بصفتنا “مستخدمين”، وفي الغالب لو تمزقت لدينا حقيبة أو محفظة في الوقت الحالي فإننا سنقوم بالتخلص منها وإلقائها في القمامة بصفتنا “مستهلكين”، هذه حقيقية قد سلّمت لها شركات ومصانع عديدة التي كانت في السابق تستخدم مصطلح “المستخدم” في مطبوعاتها ورسائلها الإعلامية لتتحول لاستخدام مصطلح “المستهلك” في رسائلها الإعلانية. ومن نِقَم ومساوئ التطور في قطاع الإنتاج الصناعي هو الإنتاج بكمية كبيرة وبسعر أقل، مما ساهم في نشر ثقافة “الاستبدال بالجديد” عوضاً عن “التصليح والصيانة”.

مع الأخذ بعين الاعتبار للعوامل الأخرى التي تساعد على الإنتاج والاستهلاك غير المسؤولين كتحسن الوضع المعيشي وتطور التسويق والتغير في السلوك والأنماط الاجتماعية، فإنها كالسؤال البشري الذي اختلف العلماء على إجابته من يأتي أولاً الدجاجة أم البيضة فالاستهلاك المفرط ينتج عنه إنتاج مفرط والعكس صحيح الإنتاج المفرط ينتج عنه استهلاك مفرط.

ويعاني اليوم كوكبنا الأزرق من تحديات عديدة ناتجة عن الاستهلاك والإنتاج المفرطان،  أبرزها نقص الرقعة الخضراء بسبب الاحتطاب الجائر لأغراض التصنيع وكذلك تلوث الهواء والبيئة المحيطة بالإنسان وبقية الكائنات الحية بسبب إنتاج الغازات الدفيئة والأجسام الدقيقة (Small Particles) لأغراض الطاقة أو التصنيع، كما تعاني دول العالم من مشاكل كثيرة متعلقة بالزيادة المضطردة في كمية المخلفات التي لا تتم معالجتها والتي تستولي على مساحات شاسعة من الأراضي والمدافن و تؤثر على البيئة المحيطة وكذلك على المياه الجوفية ومكونات التربة المحيطة حيث تشير أحدث إحصائيات برنامج الأمم المتحدة للبيئة إلى تساوي كمية المخلفات البلاستيكية السنوية مع وزن تعداد سكان الأرض.

ومع تفاقم حجم التحديات المتعلقة بالإنتاج والاستهلاك المفرطان، تتجه حكومات دول العالم إلى وضع حلول وسياسات تساهم في كبح جماح آفة الاستهلاك كتوافق الدول الأعضاء في منظمة الأمم المتحدة على أهداف التنمية المستدامة (SDGs) للعام 2030م، وتحديداً الهدف المستدام رقم (12) الرامي إلى تحقيق الاستهلاك والإنتاج المسؤولان.

وعلى تعدد واختلاف السياسات والحلول التي وضعتها دول العالم في مواجهة هذه الآفة، فإن الحلول التي تستوعب جميع الأطراف المسؤولة عن تفاقم هذه الظاهرة من مستخدم ومُصنّع ومشرّع ستكون ناجحة إذا شملت الجانب الاقتصادي فهو بذرة الزيادة في الاستهلاك والإنتاج، كأن تأتي بمردود مادي مباشر على المستخدم أو المُصنّع وستحقق صدى وقبول وانتشار واسع، بل ستكون نموذجاً يُحتذى بها.

ونجد أن الاقتصاد الدائري على قائمة السياسات والحلول التي أصبحت رائجة بين المجموعات والأفراد خلافاً عن العمل بسلال الإمداد الخطية (الاقتصاد الخطي). نعيش اليوم في عصر سلاسل الإمداد الدائرية (الاقتصاد الدائري)، ويعرف نموذج الاقتصاد الدائري على أنه الاقتصاد القائم على زيادة دورة حياة المنتج أو المادة من خلال تقليل المخلفات الناتجة عن المنتج أو المادة واستدامة المصادر والموارد التي يتم الإنتاج من خلالها.

وللاقتصاد الدائري أنماط عديدة لا تقف فقط عند نمط إعادة التدوير (Recycling)، أبرزها:

  • نمط رفض الاستخدام (Refuse)

مثال: رفض أو منع استهلاك الأكياس البلاستيكية (المخصصة للاستخدام الأحادي).

  • نمط إعادة الاستخدام (Reuse) ونمط الاستخدام لغرض آخر (Repurpose)

مثال: إعادة استخدام إطارات السيارات بعد تلفها لأغراض أخرى.

  • نمط الصيانة (Repair)

مثال: صيانة أسلاك شاحن الهاتف بدلاً من شراء أسلاك جديدة.

  • نمط التقليل في الموارد المستخدمة للإنتاج (Reduce)

مثال: تقليل الموارد والمواد المستخدمة في تغليف الهواتف الذكية، كتقليل بعض شركات الهواتف الذكية لكمية مواد التغليف بالنصف في الإصدارات الحديثة.

  • نمط إعادة التصميم (Redesign)

مثال: إعادة تصميم أكواب القهوة الباردة لتكون قابلة للشرب من غير أعواد بلاستيكية إضافية، كإعادة تصميم أكواب القهوة الخاصة بقهوة ستاربكس.

  • نمط إعادة التصنيع (Remanufacture)

مثال: إعادة استخدام المخلفات البلاستيكية لإنتاج مواد بلاستيكية جديدة قابلة للاستخدام مرة أخرى، كفأرة مايكروسوفت الجديدة والصديقة للبيئة.

  • نمط إعادة الإنتاج (Regenerate)

مثال: إعادة إنتاج الطاقة الحرارية وتوصيلها للمنازل من خلال المخلفات الحرارية الفائضة من المصانع في السويد عبر نظام تدفئة المناطقة (District Heating).

وبالمختصر لا يمكننا الاستمرار بدعم الثقافة الاستهلاكية والإنتاجية التي تضر بالبيئة وصحة وسلامة الإنسان، فالتغيير سيحدث آجلاً أم عاجلاً وعلينا جميعاً كصنّاع السياسات تعزيز ثقافة “الاستخدام” في المتطلبات الفنية وتضمين أنماط الاقتصاد الدائري التي تساهم في إطالة دورة حياة المنتج في اللوائح والأدلة الخاصة للمُصنّعين سواءً بصفة اختيارية أم بصفة إلزامية، فجعل المنتجات قابلة للصيانة وأن تكون مصنوعة من مواد قابلة لإعادة التدوير أو إعادة الاستخدام أو أن تصنع من مواد مستدامة وصديقة للبيئة سيكون جزء أساسي من المواصفات واللوائح المستقبلية.

*أخصائي مواصفات – هيئة التقييس

 

 

 

 

 

 

 

Comments (0)
Add Comment