التنمر المؤسسي

د. زكي الرباعي *

تلعب الصحة النفسية للموظفين دوراً مهماً وإيجابياً في نجاح المنظمة وصحة فريق عملها وإنجازاته ونجاحه المهني والشخصي. ويتأثر أداء الموظفين بشكل كبير بالعوامل الاجتماعية والنفسية في المنظمة، فكلما تميزت بيئة العمل بالمرح والتواصل والعلاقات الإنسانية، وتبادل الأحاديث، والحرص على المصلحة العامة، والتجرد من الأنانية، والشعور بالثقة والاحترام المتبادل بين الموظفين -أيا كانت مواقعهم الوظيفية والإدارية- زاد مقدار التعاون والانتماء للمنظمة، والإيمان برؤيتها ورسالتها وقيمها، وبالتالي زيادة الإنتاجية (الكفاءة+ الفاعلية) والتنافسية.

الصحة النفسية:
حالة من الاتزان النفسي، والعقلي والوجداني، والحركي، وهي ثلاث أركان أساسية للتوافق مع العالم الداخلي والعالم الخارجي أو الاضطراب معه.

ولا شك أن ثمة عوامل كثيرة تؤثر على الصحة النفسية لفريق العمل المؤسسي؛ تشمل القضايا التنظيمية ذات العلاقة بهيكلية المنظمة، وأسلوب الإدارة، والمسار الوظيفي، وبيئة العمل، وثقافة المنظمة. ويعتبر ضعف التواصل وكيمياء العلاقات والممارسات الإدارية السلبية والتنمر الوظيفي والتحرش النفسي بين أعضاء فريق العمل، ومحدودية مشاركتهم في اتخاذ القرارات، وطول ساعات العمل أو عدم مرونتها، والعلاقات الوظيفية التي يسودها الاختلال، والصراعات، وظروف العمل الرتيبة وغير المحفزة، والافتقار إلى انسجام وتجانس الفريق، من أهم العوامل التي تقود الى «الاشتباك» و «الاحتراق الوظيفي» في المنظمة.
وتتجه العديد من المنظمات في الوقت الحالي إلى رصد هذه الظاهرة وتقديم المساعدة والرعاية والتدريب، نظراً للتكلفة المترتبة عن الاحتراق والاستنزاف الوظيفي. وفي أحدث تقرير لمنظمة الصحة العالمية (22 يناير 2019م) تشير التقديرات إلى أن «فاقد الإنتاجية الناجم عن الاكتئاب والقلق، وهما اثنان من أكثر الاضطرابات النفسية شيوعاً، يكبّد الاقتصاد العالمي تريليون دولار أمريكي سنوياً.
من هنا ظهرت الدعوات لوضع مجموعة من الإرشادات والإجراءات والمبادئ التوجيهية التي تساعد المنظمات على إدارة أوضاع الصحة النفسية ومعالجة آثارها والوقاية منها. وقد حددت منظمة الصحة العالمية – اليوم العالمي للصحة النفسية – الذي يوافق العاشر من أكتوبر من كل عام، كما اتجهت بداية العام الجاري إلى وضع مبادئ توجيهية بشأن الصحة النفسية في مكان العمل بالتعاون مع منظمة العمل الدولية والمنظمات الخبيرة في المجال. كما دعا المنتدى الاقتصادي العالمي خبراء من أنحاء عالم الأعمال والأوساط الأكاديمية ودوائر الصحة النفسية لوضع دليل من أجل «منظمة سليمة نفسياً».
متلازمة “الاحتراق النفسي الوظيفي” مرضٌ يتسم بمجموعة من الأعراض والمتغيرات في السلوكيات المهنية والبنية الوظيفية والكيمياء الحيوية الجسمانية لدى بعض المصابين بهذا المرض، الذي يصنف ضمن فئة الأمراض ذات المخاطر النفسية الاجتماعية المهنية. وقد عرفت (كريستينا ماسلاش Cristina Maslach ,198) الاحتراق النفسي بإنه: “حالة من الإنهاك الجسدي والانفعالي والعقلي تظهر على شكل إعياء شديد وشعور بعدم الجدوى وفقدان الأمل وتطور مفهوم ذات سلبي واتجاهات سلبية نحو العمل والحياة والناس”.
وكان يعتقد في البداية أن درجة الاحتراق النفسي والاستنزاف المهني تستهدف بصفة أساسية بعض الموظفين الذين يتطلب نشاطهم المهني التزامات وضغوط كبيرة في عملهم كالأخصائيين الاجتماعين والمهن الطبية والمعلمين؛ لكن اتضح لاحقاً اتساع مخاطر ظهور متلازمة الاحتراق النفسي على جموع الأفراد مهما كان نوع نشاطهم أو وظائفهم!

أبعاد الاحتراق الوظيفي:

في البداية، استخدمت (كريستينا ماسلاك -عالمة نفس اجتماعية أمريكية وأستاذة في علم النفس بجامعة كاليفورنيا في بيركلي، والمعروفة بأبحاثها عن الإرهاق المهني) تعريفاً مؤقتاً لهذه المتلازمة اشتمل على بعدين فقط:
البعد الأول: هو النضب الوجداني emotional exhaustion والذي يتوافق مع نضب موارد الموظف الوجدانية وفقدان الدافعية لعمل أو تنفيذ المهام المكلف بها، وفقدان القدرة على الإبداع، والشعور بالإحباط والتوتر، ونفاذ الصبر، مع ملاحظة ارتباط النضب الوجداني غالبًا بالضغوط والاكتئاب!
البعد الثاني: هو سلب الشخصية depersonalization ويشير إلى تصرفات سلبية للموظف تجاه المستفيدين، والشعور بعدم الاكتراث تجاه العمل، وإقامة حاجزاً يعزله عن الزبائن وزملاءه في العمل، ويتم التعبير عنه من خلال تصرفات وسلوكيات تتمثل في حالة من الرفض، والتهكم، وسوء المعاملة.
البعد الثالث: تدنى الإنجاز الشخصي (الإنتاجية) low personal accomplishment: تم اضافته لاحقاً- ويتمثل في فقدان أو تدنى الكفاءة والفاعلية للموظف، مما يؤدي إلى تدني الإنجاز الشخصي الذي يمثل البعد التقييمي الذاتي لمتلازمة الاحتراق النفسي الوظيفي، والاعتقاد بأنه أخفق في الوصول لأهدافه، مع الشعور بانخفاض الرضا عن الذات، وقناعته بعجزه عن تلبية توقعات المحيطين به.
البعد الرابع: “الانخراط في العمل” ظهر هذا البعد لاحقاً لكن لم يتم الاحتفاظ به إلا بشكل مؤقت.
وتبدأ متلازمة الاحتراق النفسي الوظيفي بالشعور بالإنهاك الوجداني الذي يؤدى بدوره إلى سلب الشخصية. ويقلل الإنهاك الوجداني من الإنجاز الشخصي، إما بشكل مباشر أو من خلال سلب ، كما يمثل الإنهاك الوجداني العنصر العاطفي لمتلازمة الاحتراق النفسي الوظيفي، بينما يمثل البعدين الآخرين، سلب الشخصية وتدنى الإنجاز الشخصي عناصر سلوكية أو معرفية.
ثم قدمت (كريستينا ماسلاك وسوزان جاكسون) لاحقاً التعريف التالي “لمتلازمة الاحتراق النفسي”: “متلازمة من النضب الوجداني وسلب الشخصية وتدنى الإنجاز الشخصي، يظهر لدى الأفراد المنخرطين وظيفيًا” .

الاحتراق النفسي:
“خبرة نفسية سلبية داخلية تتضمن المشاعر والاتجاهات والدوافع وتشمل استجابات سلبية وغير ملائمة نحو الغير ونحو الذات”.

عوامل الاحتراق النفسي الوظيفي:

هناك عدد من المتغيرات التي تلعب دوراً مهماً في الاحتراق النفسي، فعلى المستوى التنظيمي، يمكننا القول أن ضغط الوقت، والعمل لساعات طويلة غير متوقعة، والرتابة في العمل، وضعف الحوافز، والأدوار غير الواضحة والمتناقضة، والضبابية الإدارية، ونقص الدعم الإداري، وضعف الكفاءات القيادية والإدارية في المنظمة، والتنافُر القيمي، والتطرف الوظيفي، وانعدام الأمان الوظيفي، واختلال التوازن بين الحياة الأسرية والحياة المهنية، كلها عوامل مرتبطة بواحدة أو أكثر من أبعاد متلازمة الاحتراق النفسي المهني.
كما أن التنمر الوظيفي في بيئة العمل (أو ما يسمى أحياناً بالبلطجة الإدارية) يؤثر على الحياة المهنية والشخصية، والصحة النفسية والجسدية للموظفين، وذلك من خلال ميل الرؤساء أو الزملاء لاستخدام سلوك عدواني بشكل مستمر ضد مرؤوسيهم أو زملائهم سواء كان ذلك بشكل لفظي أو غير لفظي، سري أو علني، أو من خلال الإيذاء النفسي، أو نشر الإشاعات وتشويه السمعة، أو من خلال إظهار سلوك السيطرة والهيمنة على المرؤوسين ومضايقتهم بالتسلط والقسوة والتعنيف، أو تكليفهم بما لا يستطيعون، أو الخصم من الراتب بدون وجه حق، أو في ظل غياب الرقابة الذاتية والإدارية، أو صمت الإدارة العليا عن الممارسات السلبية في بيئة العمل، أو العمل دوماً بسياسة إطفاء الحرائق، أو الإهمال والتجاهل والتهميش، أو المقاطعة المتكررة في الاجتماعات ومصادرة الحق في إبداء الرأي، أو الانتقاد الدائم غير المبرر، الخ… كلها عوامل مهمة جداً في الاحتراق النفسي تؤدي بالبعض إلى الشعور أولاً بالتعب والإرهاق النفسي وقلة التركيز، والشعور بعدم تقدير الذات، ثم قد يتطور الأمر لاحقاً إلى تقديم الاستقالة وترك العمل في المنظمة، وفي مراحل متقدمة قد يصل الامر لمرحلة الاكتئاب (النفسي/العقلي) والتفكير في إيذاء النفس!
أما على المستوى الفردي يرتبط الاحتراق النفسي بعدد من المتغيرات في المجتمع، على رأسها العلاقات التي يسودها الاختلال المجتمعي وغياب العدالة، والصراعات، وانعدام الدعم والأمان الاجتماعي.

مظاهر الاحتراق النفسي والوظيفي:

يقضي الموظف ما لا يقل عن ثمان ساعات عمل يومية متعرضاً للعديد من مظاهر الاحتراق النفسي والوظيفي وصل عددها إلى مائة و اثنين و ثلاثين من الأعراض (ويلمار شوفلى و روبرت انزمان)، تشمل ارتفاع ضغط الدم، والإصابة بالتوتر والقلق، واستنزاف الطاقة، والشعور بالتعب والإعياء، والإصابة بالصداع، وعدم القدرة على التفكير والتركيز، ومشاكل صحية أخرى، وهي كلها تؤكد “وجود صلة قوية بين الإجهاد في مكان العمل وتراجع الصحة النفسية بين الموظفين”.
فالإنهاك الوظيفي وهو أكثر الأعراض الممثلة لهذه المتلازمة مرتبط بكثرة الاضطرابات أثناء النوم أو الاستيقاظ المتكرر. ناهيك عن الاضطرابات الجسدية التي قد يصعب التنبؤ بظهورها إلا بعد مرور عام على ظهور المتلازمة نفسها (دراسة جيكوب ولبن على 245 معلم كندي)؛ حيث يصاحب متلازمة الاحتراق النفسي الوظيفي ألآم أو شكاوى من بعض الأعراض، منها: آلام البطن، والشد العضلي المتكرِّر، وآلام العظام وبصفه خاصه آلام الظهر أو الرقبة، واضطرابات نفسيه جسمانية مثل: القرحة، واضطرابات في الجهاز الهضمي، مع نقص في الدفاعات المناعية، مصحوبة بنزلات برد قد تمتد لفترات طويلة، مع حالة من التعرق والقلق.. الخ.
كما يرتفع معدل ضربات القلب أثناء الراحة عند المصابين بالإنهاك الوظيفي، مع خلل في المخطط الكهربائى للقلب، وكذلك ظهور أعراض الضغط التقليدية، وارتفاع مستوى الكولسترول والدهون الثلاثية وحمض اليوريك. ويصاحب متلازمة الاحتراق النفسي الوظيفي ارتفاع نسبة هرمون الكورتيزول خلال نهار العمل. وقد يسبب ذلك الالتهابات التي تؤدي إلى تصلب الشرايين، أو الإصابة بمرض السكر من الدرجة الثاني، وتعرض هذه التغيرات الكيميائية الحيوية الفرد لمخاطر أمراض القلب والأوعية الدموية.
وعلى مستوى الإنجاز المهني، تساهم متلازمة الاحتراق النفسي الوظيفي في زيادة الشعور بعدم الرضا عن العمل وتراجع الالتزام به، وتدهور العلاقات بين زملاء العمل والمستفيدين. كما أن المصابين بالإنهاك المهني يكونون أقل انخراطاً في العمل، أو يقترفون أخطاء لا يمكن أن تفسر بقصور في المعرفة أو الخبرة، والميل إلى السخرية واتـخــاذ قـرارات غير محسوبة، ويكون لديهم رغبة كبيرة في ترك وظائفهم، أو التغيب واختلاق المبررات.
وعلى المستوى الفردي، ترتبط متلازمة الاحتراق النفسي الوظيفي في مرحلتها الأولية بأسلوب حياة غير صحيحة، مع تدنى في تقدير الذات الذي يأتي في قمة هرم الاحتياجات الإنسانية، يصاحب ذلك حالة من الحزن الشديد واليأس والقلق. كما أن حالة الإنهاك الوجداني وسلب الشخصية قد يتبعها شعور بالعجز، وما يرافق ذلك من اضطرابات معرفية.
أما على مستوى الحياة الخاصة، فيبدو أن لمتلازمة الاحتراق النفسي الوظيفي عواقب وانعكاسات سلبية على الحياة العائلية الاجتماعية، لا تقل خطراً عما سبق.

الطريق إلى السعادة والرفاه الوظيفي:

يسهم انتشار السعادة في بيئة العمل المؤسسية بشكل فاعل في بلوغ الأهداف المؤسسية. وهنا يتوجب على المنظمات تعزيز الصحة النفسية في مكان العمل من خلال تطوير إستراتيجيات مستدامة يتم من خلالها مراعاة المتطلبات الأساسية للموظف، وتوفير بيئة صحية في العمل قائمة على تعزيز سبل الرفاهية والسعادة للموظفين، وتقليل حجم المخاطر الصحية التي من الممكن أن يتعرضون لها في بيئة العمل ووقايتهم.
ومن أنجح طرق التعامل مع الاحتراق النفسي معرفة وتحديد الأولويَّات، ووضوح الرؤية، وصناعة بيئة عمل قائمة على الاحترام المتبادل والثقة بأعضاء الفريق، واتخاذ الإجراءات الرادعة ضد ممارسات التنمر والتحرش النفسي. كما يشمل ذلك قيام المنظمة بتوفير بيئة عمل صحية تشمل المكاتب والإضاءة والتكييف وزيادة المساحات الجمالية.
كما يجب على المنظمة اتخاذ إجراء يلزم أعضاء فريق العمل بالاستمتاع بإجازاتهم السنوية وعدم ترحيلها بشكل متكرر ومتعمد. حيث تلعب الإجازة دوراً مهماً في الراحة النفسية. فالعقل البشري لا يستطيع العمل بدون راحة وبدون ترفيه، وحتى لو كان المبرر هو الاجتهاد في العمل للحصول على ترقية أو راتب أعلى وهو ما يتطلع إليه أغلب الموظفين؛ فالاجتهاد في العمل المصاحب لبيئة عمل غير صحية مع عدم تقدير الإدارة للجهد المبذول قد يقود لعواقب وخيمة على مستوى الصحة الجسدية والعقلية.
كما أن للطعام دور أساسي في تأمين الراحة النفسية للموظف! ومن هنا تبنت العديد من المنظمات توفير وجبات غذائية صحية لموظفيها أثناء فترة دوامهم، تشمل الفواكه والعصائر الطازجة وأطباق السلطة والوجبات الصحية الخفيفة. إضافة إلى تشجيع الموظفين على تبني اللياقة البدنية (بجانب اللياقة الذهنية) كأسلوب حياة من خلال دعم الاشتراك في الأندية الرياضية والتحفيز على ذلك.
وأخيراً، حتى تتحقق ما إذا كان العمل الذي تقوم به يُحقق ذاتك ويُسهم في إسعادك، أم العكس، اسأل نفسك الأسئلة التالية (على سبيل المثال):
هل أذهب إلى العمل على مضض وكأني مجبر على ذلك؟
هل أصبحت سريع العصبية والغضب عند التعامل مع زملائي في العمل أو المستفيدين؟
هل يتملكني الشعور باللامبالاة ونقص في الطاقة والحيوية والإيجابية؟
هل فقدت الحماس والاهتمام بأداء المهام المناطة بي؟
هل بدأت الميل إلى البحث عن كل جانب سلبي لانتقده؟
هل بدأت اختراع المبررات والأعذار غير الواقعية كالإجازات المرضية أو كثرة الاستئذان؟
هل أفتقد إلى الشعور بالرضا عما أحققه من إنجازات في وظيفتي؟
هل أشعر بنوع من الغبن تُجاه عملي؟
هل تغيرت عاداتي في الأكل والشرب والنوم؟
هل ألجأ إلى الأكل بنهم أو التدخين بشراهة للحصول على شعور جيد، أو حتى لا يتفاقم شعوري بالاستياء؟
هل أعاني من صداع متكرر أو آلام الظهر أو أوجاع بدنية دون أن أجد لها سبباً أو تفسيراً لها؟
إذا كانت اجابتك بنعم على أغلب هذه الأسئلة، فأنت تعاني فعلاً من الإجهاد والاحتراق الوظيفي! وهنا يجب عليك أن تقف مع ذاتك قبل فوات الأوان!

*رئيس قسم التسويق والعلاقات الدولية – هيئة التقييس

* دكتوراه في سيكولوجيا التطوير القيادي والمؤسسي

د. زكي الرباعي
Comments (1)
Add Comment
  • يحيى الخياري

    كلمات رائعة تكتب بماء الذهب. والمقال يعكس الواقع الذي نعيشه وكيف يمكن التخلص منه. شكراً من الأعماق للدكتور زكي الرباعي وشكراً لهيئة القياس الخليجية.