أبحث عن إنسان!

د. زكي الرباعي
“رأيت البارحة شيخاً يدور حول المدينة، وقد حمل مشعلاً، كأنّه يبحث عن شيء، قلت له: يا سيدي تبحث عن مّاذا؟ قال: خرجت أبحث عن (إنسان)!
بهذه الكلمات رائعة أفتتح فيلسوف الإسلام الدكتور محمد إقبال كتابه الخالد “أسرار خلودي”. وما زلنا في بحث دائم هذا (الإنسان)!
لكن من هو هذا (الإنسان)؟!

فيوم بعد يوم، ومع اشتداد المنافسة العالمية والاتجاه نحو (العولمة) و(الرقمنة) و(الشمللة)، ومع التحولات السياسية في العالم أجمع، تزداد الحاجة إلى (إنسان)، كمورد يجب الاستثمار فيه وفرصة يجب الاحتفاظ بها، كما يجب أن تحظى كل القرارات الخاصة به بالاهتمام؛ فهو العامل الحاسم في مشاريع التطوير المتواصل في عالم يصعب التنبؤ بيومه قبل غده! وهو غاية هذا الكون، ولولاه لما خلقت الأفلاك!
وفي رحلة البحث عن (إنسان)، انتقلت إدارة الموارد البشرية نقلة نوعية في المضمون والأسلوب معاً. فلم تعد تسمع اليوم بما يسمى بإدارة الأفراد أو إدارة القوى العاملة أو شؤون الموظفين، ولم يعد الاهتمام ينصب الآن على البناء المادي للإنسان وقواه العضلية وقدراته الجسمانية، أو التركيز على الأداء الآلي للمهام التي يُكلف بها دون أن يكون له دور في التفكير واتخاذ القرارات، ولا على التمحور حول قضايا الأجور والحوافز المالية وتحسين البيئة المادية، ولا على التركيز على التدريب المهني المبني على إكساب الفرد مهارات ميكانيكية يستخدمها في أداء العمل دون تنمية مهاراته الفكرية أو استثمارها، ولم يعد دور إدارة الموارد البشرية هو الاستقطاب والتعيين، والترقية، والتدريب… إلى غير ذلك، رغم إيماننا بأهمية ذلك كله، إنما زاد اليقين بضرورة اكتشاف (الإنسان) الذي نبحث عنه، واستثمار قدراته وطاقاته، واحترامه بتوظيفه في مجالات العمل المناسبة له، وتمكينه و اعتباره شريكاً في العمل وصانعاً لنجاح المؤسسات.

لا العصا ولا الجزرة!

وقد أدّت هذه النظرة المتطورة إلى الموارد البشرية -باعتبارها ميزة تنافسية- إلى بروز الإدارة الاستراتيجية للموارد البشرية للربط بين إدارة الموارد البشرية والأهداف والغايات الإستراتيجية لتحسين أداء المؤسسات وصناعة بيئة ثقافية مرنة وقادرة على تبني وزراعة الإبداع والابتكار. ومن الإدارة الاستراتيجية لإدارة الموارد البشرية إلى إدارة المواهب لاستقطاب المبدعين وتوفير بيئة إبداعية محفزة لاستثمار هذه المواهب وصيانتها وتأهيلها وتدريبها والمحافظة عليها، واليوم أو غداً ربما سنسمع عن مفهوم جديد يعزز الفكرة نفسها ويؤصلها ويطورها.
التدريب لا يؤتي ثماره!
لقد أصبح تدريب وتأهيل وتوجيه العنصر البشري سلوكياً ومعرفياً وفنياً من المسلمات الضرورية المطروحة اليوم أمام المدارس والجامعات ومؤسسات القطاع العام والخاص في كافة المجالات باعتباره عنصراً فاعلاً في منظومة الارتقاء بالأداء الإداري والمالي والجودة سواء على صعيد إنتاج السلع أو الخدمات. بل أصبح التدريب في مقدمة الوسائل المؤدية إلى الحصول على الوظيفة “حتى لعامل المغسلة” وفقاً لمتطلبات المواصفة القياسية الدولية ISO/IEC 17024:2012.
لكن المستشرف لواقع ومستقبل التدريب يجد أنه يمر بأزمة حقيقية، قد تفقد على إثرها المؤسسات في مختلف تخصصات عملها بوصلة التطوير والتنمية. حيث تحول التدريب إلى تجارة وموضة وتقليد. فلا يكفي أن ترصد المنظمات الملايين لتدريب العنصر البشري، بل لابد من وضع آليات ووسائل عملية لقياس العائد من الإنفاق أو الاستثمار على التدريب وتقييم كل مرحلة (قبل وأثناء وبعد) للتأكد من أنها تُسهم إسهاماً فاعلاً في تحقيق الغايات المنشودة وأثر ذلك على الاستثمار، فالإنفاق على التدريب هو استثماراً ولا بد من تقييم العائد منهReturn on Investment (ROI)، وسيبقى هذا التقييم -رغم اعترافي شخصياً بصعوبته- هو الأداة المثلى لتحقيق أفضل النتائج وتعظيم العائد من الاستثمار على مستوى المنظمات، وصعوبته تأتي من أنه ليس عبارة عن أجزاء أو عناصر منفصلة عن بعضها بل منظومة متكاملة من البداية إلى النهاية وإلى ما بعد النهاية.
وللحصول على نتائج مقاسة يجب أن تكون البداية صحيحة! فالتحديد المنهجي للاحتياجات وتصميم البرامج التي تلبي تلك الاحتياجات بشكل علمي ومُقنن من خلال الخبراء والمختصين؛ ثم أن الدقة في اختيار المدربين وأصحاب الخبرة لسد فجوة هذه الاحتياجات تعتبر المفتاح الرئيس لنجاح منظومة التدريب. كما أن قياس مستوى مهارات المتدربين القبلية يعتبر من الأهمية بمكان لدى المؤسسات الذكية اليوم. ويأتي بعد ذلك التقييم أثناء النشاط لتحديد ما إذا كانت البرامج والخطط والأنشطة تسير في الاتجاه الصحيح من خلال مجموعات التقييم اليومية والتي تعتمد في ذلك على عدة أساليب، منها: الملاحظة والاستبيان ومؤشر الانطباع اليومي ولوحة التعليقات والمقابلات الفردية، ويأتي التقييم في نهاية البرنامج لقياس مدى إلمامهم بالمــادة العلمية وطرق ووسائل التعليم والتدريب الحديثة المستخدمة ومدة البرنامج ومدى تحقيق البرنامج أهدافه والاستفادة منه، ويأتي تقييم تحليل التغييرات التي طرأت على المتدربين بعد الانتهاء من النشاط التدريبي، فتتم متابعة أداء المتدرب ومعرفة التحسن في الأداء وقياس أثر النشاط على مستوى العمل الميداني وتلبية حاجات سوق العمل، وتعرض هذه النتائج بشكل دوري للقيادات الإدارية في المؤسسات المختصة. وذلك حتى يحقق التدريب والتطوير والتأهيل الأهداف الاستراتيجية المنشودة.
ومع ذلك كله، ما زال التدريب لا يؤتي ثماره، ولم نستطع أن نجد ذلك (الإنسان)! لماذا؟

الشباب لا يُرَبَى!

إن «المنظومة التعليمية والتدريبية» تشكل عماد التنمية البشرية المستدامة في أي بلد، وتظل دائماً هي الدعامة التي تهيئ وتساعد الشباب على استشراف فرص العمل المنتج، وهي أساس إعداد النشء وتهيئة وتنمية المهارات وزيادة قدرات العنصر البشري خصوصاً في بدايات طرقه لأبواب عالم العمل. والتعليم ليس مجرد خدمة من الخدمات، بل هو استثمار حقيقي للقدرات البشرية وركيزة لكل تقدم. فبالتعليم والتدريب الجيدين تستطيع بلداننا أن تحول مخرجات التعليم من عبء ضاغط على الموارد ومستنزف لها إلى طاقة مبدعة قادرة على الإنتاج والتنمية.
لذا، كان التعليم هو حجر الزاوية والأساس المتين ومنطلق كل تنمية. ولقد أدركت الدول المتقدمة وعلى رأسها اليابان أن الاهتمام بالطفل في بداية حياته أكثر أهمية من الاهتمام به بعد استكمال نموه أي بعد الخامسة عشر.. فالحضانة ورياض الأطفال والمدرسة الابتدائية والمدارس الوسطى هي مراحل مهمة للغاية في رسم مسار التقدم وتنمية الموارد البشرية؛ “فالشباب لا يربى إنما تستغل طاقاته لرقي الأمم، لأن التربية هي مرحلة سابقة في “الطفولة” كما يقول خبراء التربية ومختصوها!
لقد حددت اليابان في خطتها التعليمية نوعية (الإنسان) الذي تريده بعد دراسات وبحوث مستفيضة. ووضعت خطة البناء وقائمة الأولويات فجاء تعزيز لطف وأدب المعاملة عند الطفل، ليكون فرداً منتجاً في الفريق المنتج. وتشجيع عمل الفريق وغرسه من خلال حصص حوار دراسية مدروسة. حيث يقسم الأطفال في حصص الحوار لمجموعات صغيرة للمحادثة والمناقشة لتطوير قوة الحوار والعمل الجماعي عند الأطفال. وتعليمهم الانضباط واحترام الوقت وتقديسه، والإخلاص في العمل، بالإضافة لتدريب الطالب للاستفادة من الرياضيات والعلوم الطبيعية والاجتماعية لحل المعضلات التكنولوجية والاقتصادية والاجتماعية. أما بعد ذلك يتجه الكثير من الطلبة للدراسة بمعاهد التكنولوجيا أو الكليات ذات البرامج لمدة سنتين، وبعدها يتخرج الطالب ويبدأ العمل في المصنع أو الشركة.
ولذا، لا بد من توفير فرص جديدة للطلاب وتزويدهم بالمهارات اللازمة للفرص الناشئة. وبحلول عام 2020، سيكون أكثر من ثلث ّالمهارات الأساسية للعمل قد تغيرت (WEF 2016، تقرير المنتدى الاقتصادي العالمي 2016(. لذلك، يجب أن يكون اكتساب المهارات اللازمة للقرن 21 جزءا من عملية تعلم مدى الحياة، قوامها أربع عناصر أساسية: تفكير نقدي، وتعاون، وإبداع، وتواصل. وذلك وفق معطيات تقرير التنمية البشرية 2016:

طرق التفكير أدوات ممكنة للعمل طرق العمل مهارات الحياة في هذا العالم
·   الإبداع

·   التفكير الناقد

·   حل المشكلات

·   اتخاذ القرارات

·   التعلم

·  تقنية المعلومات والاتصال ·   التواصل

·   التعاون

·   المواطنة

·  المسؤولية الشخصية والمهنية والمجتمعية

سيمفونية اسمها (الإنسان):

إن الاستثمار الذكي في (الإنسان)، يبدأ من الاهتمام بتربيته منذ نعومة أضافره، وفي المراحل الابتدائية، والاهتمام بتعليمه في المراحل المتوسطة، ثم توجهه ليختار صيغة مستقبله. واليوم تصنف المدارس الابتدائية في فنلندا، واليابان، وسنغافورة، وكوريا الجنوبية بأنها الأفضل عالمياً بسبب أدائها العلمي المتميز. ومع ذلك فالشيء المهم، وخصوصاً في اليابان، لا يتمثل في تخريج أطفال بارعين أذكياء بقدر ما هو الاهتمام بتخريج أطفال جيدين ومسؤولين ومنظمين، فقد (خلقوا لزمان غير زمانكم).
لقد أدركت هذه الدول وغيرها من الدول المتقدمة أن جوهر التقدم هو “عقل الإنسان” فاهتمت بأهم مرحلة من مراحل نمو الطفل فركزت على التعليم في مرحلة الحضانة ورياض الأطفال، وخصصت لها المدرسين ذوي البراعة الفائقة برواتب عالية، وأدخلت الطرق والأساليب التعليمية الحديثة. وتدريبهم في المرحلة المتوسطة على مهارات القيادة وتحمل المسؤولية وحل المشكلات واكتساب القيم، ثم تهيئتهم لاختيار طريقهم في المستقبل حيث يتعلمون المهارات والمعارف الأساسية ليتمكنوا من إدراك واستيعاب الأعمال والوظائف المختلفة الضرورية في المجتمع من خلال التدريب في المدارس الثانوية المتخصصة والمعاهد التكنولوجية والكليات المهنية والتركيز على المهارات التي يتطلبها سوق العمل فكانت دورات التدريب الميداني في المصانع والبناء والبنوك والأعمال الحرة..، فأعدتهم بذلك لخوض غمار الحياة وقبول التحدي والاعتماد على الذات والثقة بالنفس. أما من يريد مثلا أن يصبح محاميا او مهندسا أو طبيبا أو اقتصاديا أو معلما، فعليه أن يكمل الدراسة في الجامعة ويتخصص.
إن مفهوم العمل في اليابان هو الإنتاجية من خلال التعليم والتدريب المستمر، وزراعة الولاء والإرادة التي لا تعرف الملل، والتدوير الوظيفي بحيث ينتقل الموظف من دائرة لدائرة كل عدة سنوات، للمحافظة على حبه للعمل وإتقانه واكتشاف تحديات جديدة للتعامل معها ولتطوير قدراته المختلفة. وتهيئة الموارد البشرية لكي تستطيع القيام بأي عمل مع قليل من التدريب، استعدادا للتغيرات التكنولوجية وتقلبات الأسواق. فعزف الإنسان الياباني سيمفونية اسمها ” اليابان”. ورسمت للجميع رؤية واحدة وهي ” يابان عملاق”.

هندرة لا بد منها!

إن أي استراتيجية ناجحة لتنمية الموارد البشرية يجب أن تضع في حسبانها كأولوية من أولوياتها قيام النظام التعليمي بدوره كاملاً إزاء احتياجات سوق العمل من أيد عاملة متعلمة واعية ومدربة، بمعنى وجوب الربط بين المنظومة التعليمية والتربوية والتكوينية من ناحية، وبين التدريب والتأهيل من ناحية ثانية، وبين متطلبات الاقتصاد والعمل من ناحية ثالثة، حتى لا تصبح المحاضن التعليمية والتدريبية معملاً لإعداد وتخريج العاطلين عن العمل، أو بتحويل التعليم إلى وسيلة لتخريج المهمشين والساعين لفرص العمل دون جدوى.
وهذا يحتم أيضا قيام روابط وثيقة بين مؤسسات التعليم والتدريب من ناحية والمؤسسات والشركات التي توفر فرص عمل من ناحية أخرى، بما يكفل مواكبة احتياجات السوق. وهذا يتطلب منا (هندرة) العملية التعليمية والتدريبية من أجل رفع الكفاءة والمهارة في مختلف القطاعات. ولابد أن تكون استدامة الموارد البشرية على سلم أولويات أصحاب القرار لإثراء حياة كل إنسان ومن ثم إثراء المجتمعات؛ ولتحقيق الاستدامة في التنمية البشرية، لا بد من التمكين لأفرادها ووضع خطط وبرامج عمل أكثر فاعلية وتوجيه الموارد إلى حيث يجب أن تكون مكاناً وزماناً.

من هارفرد إلى مايكروسوفت!

إذاً، فقضية التعليم والتدريب ليست بالضرورة قضية مناهج وامتحانات ومواد تدريبية وشهادات أكاديمية وتدريبية بل هي صناعة (إنسان) في حالة مستمرة من التساؤل “.. كما يقول ماندل كرايتون. فليست الشهادة هي محور القضية بل إن تعليم الفرد وتربيته وتدريبه لاكتساب المهارة وصناعة الإبداع هو جوهر التنمية وأساس كل تقدم. لقد ترك بل جيتس دراسته في أفضل جامعة عالمية (هارفارد) ليجعل من مايكروسوفت أعظم إمبراطورية تقنية باتت تخدم العالم بأسره.

ستظل رحلة البحث قائمة، وحاجة العالم إلى هذا “الإنسان” أشدّ اليوم من حاجته إلى أي شيء آخر. لكن من هو هذا الإنسان؟!!
إنه أنت! فكن سيرة ذاتية راقية.

 

*رئيس قسم التسويق والعلاقات الدولية – هيئة التقييس

*دكتوراه في سيكولوجيا التطوير القيادي والمؤسسي

 

د. زكي الرباعي
Comments (0)
Add Comment