الشراكة مع أصحاب المصلحة في تطوير ونشر أنشطة التقييس

د. زكي الرباعي *

لم يعد بإمكان المنظمات اليوم أن تختار ما إذا كانت تريد التعامل مع أصحاب المصلحة أم لا؛ القرار الوحيد الذي يتعين عليها اتخاذه هو متى وكيف يتم ذلك بنجاح!

يعتبر إشراك أصحاب المصلحة- بشكل عام- أمر مهم لأي نوع من المنظمات؛ الأعمال التجارية أو العامة أو المجتمع المدني. وهو مهم بشكل خاص في سياق إدارة المنظمة باعتباره جزء لا يتجزأ من مفهوم التطوير والتحسين والمسؤولية المجتمعية لها.

ويعتمد إشراك أصحاب المصلحة على فكرة مفادها أن تلك المجموعات التي يمكنها التأثير أو التأثر برسالة المنظمة، يجب أن تُمنح الفرصة للتعليق والمساهمة في تطوير القرارات التي تؤثر عليها. وعندما لا تشارك المنظمات أصحاب المصلحة ولا تبحث عنهم، فإنها ستكون مضطرة يوماً ما إلى القيام بذلك بسبب مطالب الجهات الفاعلة في الاقتصاد، وزيادة الوعي المجتمعي بالتقييس، والمتغيرات والأزمات والتقنيات المتسارعة. وقد تُجبر المنظمات على الدخول في حوار دفاعي مع أصحاب المصلحة، مما يؤدي إلى خسارة كبيرة وطويلة الأمد للسمعة. وغالبًا ما يكون هذا النوع من التفاعل عدائيًا ومدمرًا للثقة بين جميع الأطراف.

وإشراك أصحاب المصلحة يعني الاستعداد للاستماع ومناقشة القضايا التي تهمهم. والأهم من ذلك، يجب أن يكون لدى المنظمة -نتيجة لإشراك أصحاب المصلحة- المرونة لإعادة النظر في دراسة القرارات والتوجهات، وتحديد الطريقة الأفضل للوصول إلى التناغم والانسجام والموائمة، بما يحقق الفائدة والمنفعة لجميع الأطراف: الأعمال والمجتمع وأصحاب المصلحة!

لهذا، تحرص المنظمات الحديثة والواعية بمسؤولياتها والتزاماتها، والتي تدرك التغيرات المتسارعة في عالم الأعمال- بمختلف أنواعها، وكيفية ارتباطها بأداء المنظمة- على إقامة علاقات مع أصحاب المصلحة كوسيلة لإدارة تأثير تلك المتغيرات، والسعي إلى التخفيف من المخاطر من خلال مفهوم “إدارة أصحاب المصلحة”، والانفتاح على التغيير، واستثمار تلك الاتجاهات لاستكشاف فرص جديدة للشراكة المستدامة.

وكما هو الحال مع أي عملية أخرى، يجب أن تكون مشاركة أصحاب المصلحة منهجية وعملية من بداية التخطيط وتحديد الأهداف إلى مرحلة ما بعد المراقبة والتقييم. وهذه العملية ليست خطية؛ بل هي عملية تكرارية تتعلم منها المنظمة وتحسن قدرتها على مشاركة أصحاب المصلحة بشكل هادف مع تطوير واستدامة علاقات مبنية على الثقة والاحترام المتبادل، بدلاً من المشاورات لمرة واحدة، لإرضاء طرف، أو لنشر “بوست” وصورة عن تلك المشاركة!

التقييس وأصحاب المصلحة!

في أدبيات المنظمة الدولية للتقييس (ISO)، يشير مصطلح “أصحاب المصلحة” إلى الفرد أو المجموعة التي لها مصلحة في قرارات أو أنشطة منظمة ما. وقد يشمل ذلك العملاء والموظفين والموردين والمستثمرين والجهات التنظيمية والمجتمع ككل.

وفي هذا السياق، تسعى أجهزة التقييس الوطنية ومنظمات التقييس الإقليمية والدولية والجهات ذات العلاقة إلى نشر مفهوم مشاركة (Engagement) واستشارة (Consultation) الشركاء وأصحاب المصلحة في تطوير أعمال وأنشطة التقييس لما له من أثر إيجابي وبشكل مباشر في نشر ثقافة التقييس على نطاق واسع، ومحاولة استكشاف وفهم التوقعات الوطنية والإقليمية والدولية من التقييس قبل الاستثمار في عملية التقييس، وتحديد الأولويات لتشكيل الأفكار والآراء ووضعها في السياق الاستراتيجي والفعل الملموس.

وبشكل أدق، تُعَدُّ مشاركة أصحاب المصلحة والمتأثرين بتلك الأنشطة عنصرًا حاسمًا في تطوير أعمال المواصفات القياسية والتشريعات الفنية، ويُسْهِم في ضمان المصلحة العامة والتركيز على احتياجات المستفيدين والمستخدمين، بما في ذلك الأفراد والشركات والمشغلين الاقتصاديين ومنظمات المجتمع المدني. كما تهدف إلى تعزيز فعالية القطاع العام والخاص والخدمي ومنظمات المجتمع المدني، وزيادة مشاركة أصحاب المصلحة في تطوير البنية التحتية للجودة وتوحيد التقييس وأنشطته المختلفة، بما يخدم منظومة التقييس الوطني والإقليمي والدولي، ويزيد من مستوى الاعتراف بقيمة وفوائد التقييس من قبل الجهات المعنية في القطاعات المختلفة.

حيث يمكن لهؤلاء تقديم الخبرة والنتائج البحثية والتغذية الراجعة والحلول الممكنة لمعالجة التحديات، وبالتالي تحسين جودة وشمولية المواصفات القياسية والتشريعات وأدلة العمل الفني، وتوليد شعور بملكية تلك المخرجات، وهذا بدوره يعزز الثقة بها والاستعداد الإيجابي للامتثال لها.

كما تحرص تلك الجهات على تسهيل مشاركة أصحاب المصلحة المعنيين في عملية التقييس وتوفير المعلومات لهم وسماع آرائهم ومقترحاتهم. وكلما كان من الممكن إشراك أصحاب المصلحة في أنشطة ومجالات عمل جديدة على المستوى الوطني في وقت مبكر، كلما كانت المشاورة الوطنية بشأن تلك المقترحات أكثر فاعلية. كما إن إشراك أصحاب المصلحة في مرحلة الاقتراح وإبداء الملاحظات سيكون له تأثير إيجابي على مشاركة أصحاب المصلحة خلال عملية تطوير وتطبيق المواصفات القياسية والتشريعات الفنية.

إخطار ومشاركة لابد منها!

تقوم العديد من الدول والأجهزة المعنية فيها بالبنية التحتية للجودة والتقييس بنشر المواصفات القياسية واللوائح والتشريعات وإبلاغ الجمهور بشكل منهجي عبر قنواتها الرسمية، كما تسعى لإشراكهم في عملية تطوير أعمال التقييس، بهدف توسيع نطاق ممارسات التشاور وجعلها في متناول الجميع وأخذ الآراء وإبداء الملاحظات والتعليقات بشأنها، مما يعزز من درجة الوعي وتحسين الشفافية.

بل تعتبرها المنظمات الدولية كمنظمة التقييس الدولية (ISO) ومنظمة التجارة العالمية (WTO) مرحلة أساسية ومبدأ من مبادئ تطوير المواصفات القياسية الاختيارية أو التشريعات الفنية الملزمة، ويتحتم على الجهات المالكة للعملية الإخطار عنها للجمهور على المستوى الوطني عبر منصاتها الرسمية، وكذلك على المستوى الدولي- (من خلال نظام e-Ping التابع لمركز التجارة الدولية) – وإتاحة فترة زمنية تصل إلى ستين يوماً ولا تقل عن شهر لتلقي تلك الملاحظات والمرئيات والتغذية الراجعة على اللوائح الفنية ذات الطبيعة الإلزامية. وعلى اللجان المختصة دراسة تلك الملاحظات وإبداء التعليقات والتفسيرات والتبريرات بشأنها، مالم قد يُعْتَبر إهمالها وعدم الأخذ بها معيقاً فنياً للتجارة الدولية، وفق الاتفاقيات الدولية ذات العلاقة، وعلى رأسها اتفاقية المعوقات الفنية للتجارة (TBT) واتفاقية التدابير الصحية والصحة النباتية (SPS).

مبادرات هيئة التقييس الخليجية مع أصحاب المصلحة:

تعمل هيئة التقييس الخليجية على تعزيز شراكاتها مع أصحاب المصلحة من خلال تشجيع ودعم جميع القطاعات (الجهات ذات الأنشطة الربحية، مثل المصنعين والتجار والمستوردين، والجهات غير الربحية ذات الصلة، مثل المختبرات – الجامعات والمعاهد، ومراكز البحث العلمي، والجهات الرقابية أو الحكومية، وممثلي جهات حماية المستهلك)، للمشاركة في أعمال التقييس، وتطوير شراكات سليمة مع أولئك الذين يمكنهم المساهمة في تحقيق نطاق ورسالة الهيئة والدول الأعضاء.

كما تنظر الهيئة في هذه الشراكات إلى الأدوار التكميلية والتكاملية التي يمكن أن تلعبها على المستوى الوطني والخليجي، بما يتناسب مع الممارسات العالمية في إشراك واستشارة الأطراف المعنية، وذلك لتعزيز التعاون وتبادل المعرفة وبناء الخبرات والقدرات الفنية وتعزيز التقييس والتطبيق الأمثل لمخرجات العمل الفني، ويتجلى ذلك من خلال عدد من المبادرات، أهمها:

  • مبادرة مشاركة الشركاء وأصحاب المصلحة في تطوير المواصفات القياسية واللوائح الفنية الخليجية.
  • مجاميع التعاون الخليجية للجهات المقبولة (Notified Bodies).
  • ملتقى المشغلين الاقتصاديين (Economic Operators).
  • اليوم المفتوح للمشغلين الاقتصاديين (Open Days).
  • شبكة التنسيق التنظيمي الخليجية (GRC-Net).
  • النظام الخليجي للاخطار الموحد (Unified Notification System) لدى منظمة التجارة العالمية (WTO).

الفوائد والقيم المضافة: مشاركة، إثراء، امتثال

إن تطوير علاقات ذات مغزى مع أصحاب المصلحة من شأنه أن يضيف قيمة إلى عمليات منظمات التقييس، وأجهزة التقييس الوطنية تتمثل في حماية المستهلك، والبيئة، والصحة العامة، وتقليص المعوقات الفنية للتجارة، وتقليل المخاطر، وتعزيز الفرص من خلال فهم أفضل للسياق السياسي والاقتصادي والاجتماعي والتكنولوجي والبيئي والتشريعي (PESTEL) المتغير بسرعة؛ وتمكينها من فهم الملاحظات والمقترحات والمرئيات، وربما الانتقادات، بشكل أفضل، والرد أو الإقناع أو معالجة الشكاوى. وعلاوة على ذلك، فإنه سيمكن أجهزة التقييس الوطنية ومنظمات التقييس من طمأنة أصحاب المصلحة بأنهم على رأس القضايا، وفي بعض الحالات، يكون أصحاب المصلحة ضرورة لحل المشاكل والتكيف مع المتغيرات. وبالتالي، يستلزم توفير الوقت والمال والجهد المبذول في تطوير آليات المشاركة والتواصل.

ولا شك، فإن الإطلاع المبكر للأطراف المعنية على خطط ومشاريع المـواصفات القـياسية واللوائح الفـنية، التي ستلعب دوراً حيوياً في ضبط الأسواق في المستقبل، يحقق العديد من الفوائد، أهمها:

  • مـساهمة الأطـراف المـعنية في إعـداد المـواصفات القياسية/اللوائح الفـنية، مما يـسهم في إيصال رأي هذه الجهات إلى صناع القرار بشكل مباشر ومرن.
  • انـخـفاض تــكاليف تـصــنيع المنـتجات وذلك لـعدم الحـــاجة إلى تــعديل الـمـنــتجات للاســتجابـة إلى المـتـطلبات المـدرجة ضـمن المـواصـفات القياسية واللوائح الفنية.
  • تحسين جودة المخرجات، مــما يــزيد من مــواءمـة مـحـتـوى المـواصـفة القياسية واللائحة الفنية لمـتـطـلبات وضوابط الســوق، وبــما يـلبي احــتـياج المستهلك والبيئة والصحة العامة.
  • سهولة تطبيق المواصفة القياسية أو اللائحة الفنية، أو دعم المبادرات العالمية كالتغير المناخي والتنمية المستدامة وندرة المياه والتصحر والأمن الغذائي- وغيرها من القضايا- نـتـيجة للمــساهمة المــبكرة للأطـراف المعنية في تطويرها، وتكون النتائج ذات صلة وعملية ومقبولة على نطاق واسع، وهذا يؤدي إلى زيادة ثقة الجمهور ومعدلات الامتثال والدعم.
  • تبـادل الخبرات والمعارف وأفضل الممارسات بين ممثلي اللجان الفنية الوطنية أو الإقليمية والمختصين من أصحاب المصلحة.
  • تعزيز بيئة مواتية للابتكار والتحسين المستمر، حيث تؤدي وجهات النظر المتنوعة غالبًا إلى حلول إبداعية لمشاكل معقدة. كما توفر الملاحظات المستمرة فرصًا لمراجعة وتحسين المواصفات والتشريعات الحالية.
  • بناء شبكة علاقات واسعة مع أصحاب المصلحة، مما يعزز التعاون والشعور بالانتماء للمجتمع. ويمكن لهذه العلاقات أن تسهل المحادثات والشراكات المستقبلية في المجالات ذات الصلة.
  • إثراء المناقشات من خلال وجهات النظر المتنوعة؛ حيث تؤثر المواصفات القياسية واللوائح الفنية والأنظمة والتشريعات على مجموعة واسعة من أصحاب المصلحة، بما في ذلك ممثلي الصناعة والهيئات التنظيمية والمستهلكين والمنظمات غير الحكومية والأوساط الأكاديمية. ويؤدي إشراك هذه الأطراف إلى مناقشات أكثر ثراءً وفهم شامل للاحتياجات والمخاوف المحيطة بمواصفة أو لائحة أو نظام أو دليل استرشادي.
  • بناء المصداقية وتعزيز الشفافية والشمولية والثقة في عملية تطوير المواصفات القياسية واللوائح الفنية. والحقيقة أن الثقة تعتبر حجر الزاوية للتنفيذ والامتثال الناجحين، وخاصة في القطاعات حيث السلامة والامتثال التنظيمي يشكلان أولوية.
  • الاســتـفادة مـن الشراكة مع أصحاب المصلحة، مثل (استضافة اجتماعات اللجان الفنية، برامج بناء القدرات، البرامج والأنشطة التوعوية المشتركة، رعاية الفعاليات ذات العلاقة، تقارير، أبحاث علمية، الخ)، بعيداً عن التخوفات السائدة بتعارض المصالح!

القيم الأساسية لممارسة مشاركة أصحاب المصلحة:

غالباً، قد لا يكون لأصحاب المصلحة تصويت في عملية اعتماد مخرجات التقييس، ولكن لكي تكون عملية المشاركة أكثر فاعلية وديناميكية، ومفيدة لجميع الأطراف، فإنه ينبغي مايلي:

  • تسهيل عملية مشاركة أصحاب المصلحة وأولئك المتأثرين أو المهتمين بقرار ما.
  • الحصول على مدخلات من أصحاب المصلحة المشاركين لتصميم كيفية مشاركتهم.
  • توفير ونشر المعلومات التي يحتاج إليها أصحاب المصلحة للمشاركة بطريقة ذات مغزى.
  • تعزيز مشاركة أصحاب المصلحة في القرارات المستدامة من خلال المناقشة، والحوار، والاعتراف باحتياجات ومصالح جميع المشاركين، بما في ذلك صناع القرار، والتواصل والتشاور بشأنها.
  • أن يكون لأصحاب المصلحة رأي مسموع في القرارات المتعلقة بالإجراءات التي قد تؤثر على حياتهم أو كوكب الأرض الذي يعيشون معه.
  • التغذية الراجعة عن مشاركة أصحاب المصلحة وكيف أثرت مدخلاتهم على القرار حول موضوع ما.

حوكمة.. لا بد منها!

وأخيراً، ينبغي ألا يفهم من دعوتنا بإشراك الأطراف المعنية في أعمال التقييس أن تكون عملية ارتجالية غير مدروسة، بل إنه من المهم أن يتم حوكمة مشاركة جميع مجموعات أصحاب المصلحة المعنيين لضمان الأولويات التشريعية، وتلبية الاحتياجات والتوقعات لأصحاب المصلحة، وضمان التمثيل المتوازن والشامل للأطراف المعنية، بعيداً عن هيمنة طرف على الآخر، أو تهميش طرف آخر.

وبما أن الشراكة في مجال التقييس والجودة ليست مجرد خيار، بل ضرورة لتحقيق التميز في عالم الأعمال اليوم، وبناء علاقات قوية، وتحقيق نتائج استثنائية وتلبية احتياجات المستفيدين بشكل أفضل، فإن ذلك يتطلب تصميم وتطوير خارطة طريق عملية لتعزيز وتشجيع مشاركة الشركاء وأصحاب المصلحة في تطوير أعمال التقييس، وآليات المشاركة الفاعلة، انطلاقاً من كيفية تحديد وتحليل مجموعات أصحاب المصلحة، ومعرفة نشاطاتهم، وتحليل توقعاتهم واحتياجاتهم، بهدف تعظيم الفائدة لجميع الأطراف ذات العلاقة، وهذا ما سأتناوله في مقالتي القادمة بإذن الله.

 

رئيس قسم التسويق والعلاقات الدولية – هيئة التقييس الخليجية

Comments (0)
Add Comment