وصلت البشرية اليوم إلى نقطة في تاريخها نالت فيها كل شيء؛ علوم وابتكارات، وتقدم وثروات، لكنها أضاعت طريقها وفقدت إنسانيتها. وحقق الذكاء المؤسساتي نجاحاً مادياً كبيراً، لكنه تراجع قيمياً. وكأفراد، عرفنا الخير من الشر، لكننا لم نعرف خير الخيرين وشر الشرين! ففقدنا بوصلتنا!
تتحدد قيمتنا الحقيقية بما نملكه من حكمة ندير بها المواقف! فهي الفردوس، ولا شيء يعدلها (وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيراً) سورة البقرة، الآية: 39
وجوهر الحكمة يكمن في معرفة وإتقان (ماذا) و (متى) و (كيف) نقول ونفعل، ويقتضي ذلك القدرة على الفهم والاستيعاب والاستدلال والتجربة واستشراف المستقبل، أَخْذَاً في الاعتبار نواميس الكون ودروس التاريخ لزيادة “مساحات الحقيقة” فالحكمة حالة من التألق الدائم والمستمر الذي يمنحنا المرونة الذهنية والإبداعية والقِيَمِيَة، والقدرة على الاستجابة الناجحة للمتغيرات والأزمات.
وَوَضْعُ النّدى في موْضعِ السّيفِ بالعلى مضرٌّ كوضْع السيفِ في موضع النّدى
ولذا، كان لابد من مصاحبة الحكمة لعمليات التطوير بأركانه المختلفة، كأداة فاعلــة تساعد القــادة على التعامل الفاعل والشامل مع القضايا الفكرية والمهنية والإنسانية، لمحاولة سبر أغــــوار النفــس البشرية، والعـمــل من (المركز التنفيذي للذات) للوصـول إلى الأداء المنشود، وما عدى ذلك فإنه (كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُـهُ الظَّمــْآنُ مَاء) سورة النـور، الآية:39.
“لا يزال المرء أُمياً حتى يقرأ ذاته”!
ذهبنا إلى كل مكان براً وبحراً وجواً، لكننا لم نذهب إلى أنفسنا قط! فخضنا مع الخائضين. فهذا لا يفهمنا، وذاك يستغل طيبتنا ومواهبنا، وآخر يسرق (الكعك) الخاص بنا. حينما تشرق شمس ذواتنا، سنضيئ ما حولنا، وسنتحرر من ظلام العلاقات، وسنصل إلى مرحلة التقمص والانسجام مع الآخرين، والتحدث باللغة الذهنية لأنماطهم الشخصية وتفضيلاتهم الطبيعية، وحينها نجد الحكمة في أرقى صورها. وفي تاريخ بغداد للخطيب البغدادي: “من تفرس في نفسه فعرفها، صحت له الفراسة في غيره وأحكمها”. وفي “فن الحرب” لـ: (صَن تزو) -الجنرال والفيلسوف الصيني: من عرف نفسه، فليس عليه أن يخاف من نتيجة مئة معركة.
من الذكاء إلى الحكمة
الذكاء بمفرده لا يجعل الإنسان حكيماً. وفي أدبيات المنطق (كل حكيم ذكي، وليس كل ذكي حكيم!)، ورب حامل فقه ليس بفقيه. فالحكماء هم طراز آخر من الناس، لديهم قدرة خاصة على مزج “المعرفة والخبرة والتجربة” في قالب من “الحلم والأناة”، وهما خصلتان يحبهما الله ورسوله.
(المعرفة) هي البداية المولدة (للخبرة) التي تصنع لنا (التجربة). لكن (المعرفة+ الخبرة+ التجربة) لا تكفي! هناك حاجة مؤكدة لضلع رابع هو محصلة نهائية لهذه الثلاثية الجميلة؛ (الحكمة).
عرش الكفاءات المحورية
الأجزاء وحدها ليست هي التي تحدد قيمة الكل، بل إن العلاقات التفاعلية الحكيمة بين هذه الأجزاء تلعب دوراً مهماً في صناعة قيمتها؛ فقد تفشل الكفاءة الفردية والمؤسسية بسبب ضعف العلاقات الحكيمة، والعكس صحيح. وانطلاقاً من هذا المنظور الحيوي، تظل الحكمة متربعة على عرش الكفاءات المحورية على المستوى الفردي والمؤسساتي. ولا تكتفي الحكمة بأجزاء من الصورة مهما كبرت وتعددت تلك الأجزاء، ولن تنخدع بالصورة الكاملة بعيدة عن الأجزاء؛ فهي تبحث عن الشمولية ولا تغادر التفاصيل، وفي نفس الوقت لا تنشغل بتوافه الأمور وسفسافها، (وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ) سورة النمل- الآية:20. ولا يجيد التحرك والتوازن في هذه المربعات إلا حكيم! حكيم! حكيم!
غير من خططك لكن لا تغير الأرنب!
كل إنجاز كبير -غالباً- ما تسبقه أعوام من الكد ومحطات من الاخفاق والنجاح (جذور الحكمة). اعرف قدراتك أولاً، فما يجعل البالون يطير ليس لونه، بل ما بداخله. وقبل أن تشتري معدات تسلق الجبال، حدد الجبل(الهدف) الذي ستتسلقه. وركز على (أرنبك) الذي تريد، وإذا كان مراوغاً، فغير من (خططك وتكتيكاتك.) لكن لا تغير الأرنب”! غير (وسائلك) عندما لا تسير الأمور كما يجب، ففي ذلك حكمة. وخلال رحلتك لا تحرف بوصلتك عن الهدف، ولا تكثر الالتفات كي لا تفتر، (وَلا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ) سورة هود، الآية: 81 – سورة الحجر، الآية: 65، وفي صحيح مسلم “امشِ ولا تلتفت حتى يفتح الله عليك.
شجرة الخيزران الصينية
شجرة يصل طولها إلى (24) متراً تقريباً؛ خلال (1825 يوماً) لا تحقق هذه الشجرة أي نمو باستثناء برعم صغير. وبعد ذلك، وخلال الـ (90) يوماً التالية يصل طولها إلى ارتفاع ثمان طوابق دفعة واحدة، ولنا في ذلك حكمة! هناك من يتعجل النتائج، ويتسرع في إرضاء نفسه “بزراعة الفِطر الذي ينمو بعد ليلة ممطرة رائعة”، ويذبل بعدها مباشرة. وشتان بين من ينمو على السطح، وبين من يمد جذوره في الأعماق. والنصر صبر ساعة! ودرجة واحدة تحول الماء من حالة السخونة (99° مئوية)، إلى حالة الغليان (100° مئوية)، لكنها الدرجة التي تمنحه القدرة الهائلة التي تكفي لتحريك قطار!
إن نواميس الكون تقتضي التدرج، والزمن جزء من (المعرفة والخبرة والتجربة) (ولَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَىآتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) سورة القصص، الآية:14. والعلمُ بِالتَّعَلُّمِ، والحِلْمُ بِالتَّحَلُّمِ، كما في صحيح الجامع. يوصيك (الفاروق) رضي الله عنه بقوله: “تفقهوا قبل أن تسودوا”، ويدلك (معاوية) رضي الله عنه: “لا حكيم إلا ذو تجربة”، ويدهشك الفنان الكبير (بابلو بيكاسو): “لقد قضيت من عمري (30) سنة حتى أتمكن من رسم لوحة في (30) ثانية! وفي الإرث الإداري للدكتور (غازي القصيبي) – رحمه الله: “الذين يعرفون فرحة الوصول إلى أعلى السلم؛ هم الذين بدأوا من أسفله”.
الفورية دونما استعداد قد تؤدي إلى الفشل، وأي حماسة متهورة غير متزنة أو مدروسة قد تستبد بالبعض هي حماسة غير مرغوبة، ومستويات الجماهير لا تتحكم في تقرير المصير وتحديد الفضيلة، فتمعن في (سيكولوجيا التأثير الجماهيري). وفي أدب محمد بن بشر:
فاطْلُبْ لرجلك قبل الخَطْوِ مَوْضِعَها َمَنْ عَـــلاَ زَلَقـــاً عن غِــــرَّة زَلجَــا
يطمئنك “ابن عطاء الله السكندري” بقوله: ” سوابق الهمم لا تخرق أسوار الأقدار”، فـ “أرح نفسك من التدبير، فما قام به غيرك عنك لا تقم به لنفسك”، وانشغل بما هو مطلوب منك، فإن “اجتهادك فيما ضُمن لك، وتقصيرك فيما طُلب منك، دليل على انطماس البصيرة منك”، و “ربما أعطاك فمنعك، وربما منعك فأعطاك”! فكن حكيماً. والعجلة غير محمودة كما في (القرآن لفجر آخر) إلا إن كانت عَجَلَة (عُمَرِية)، أو كانت شوقاً إلى الله تعالى: (وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى)سورة طه، الآية:84.
ضجيج الطواحين
شخصياً- أؤمن بالبساطة، ففيها الحُسن والسهولة، وأكفر بالتعقيد لأن من معانيه “الالتواء” وهو نقيض الحل، وأكره التسطيح أياً كان مصدره أو مبرره، لأن فيه امتهان لعمق الحقيقة. والبساطة والعفوية حكمة، فأضفها إلى منظومة حياتك، وما خُيِرَ النبي – صلى الله عليه وسلم – بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما. والحكمة تقتضي المداراة والتغافل، وسيد قومِهِ المُتَغَابِي، ولا تنحني إلا ملأى السنابل. والانحناء أحيانا هو خيرٌ من التحطم. ومن روائع عمر بن عبد العزيز-رضي الله عنه: “إذا رأيتم الرجل يطيل الصمت، فاقتربوا منه فإنه يُلَقِّن الحكمة”.
حينما تشرق أنوار الحكمة في جنباتنا، تمتلئ حياتنا بالهدوء والاتزان والتسامح؛ فالحكمة صفة العقل المتعمق الرزين، وكمال النفس الناطقة. أما عشاق الضجيج ومدمنو التعقيد فحتماً سيجنون الكآبة والقلق والتوتر وفقدان الأمن والسلام الداخلي.
بعض المعارك في خسرانها شرف!
هناك من يفوز بالقلوب والعقول دون معارك، لأنه يعلم أن العنف لا يولد غير الجروح، ويعلم أن مواجهة التجريح بالتجريح هو قرار باستمرار المعاناة. يحذرك الإمام الغزالي-رحمه الله- في (جدد حياتك) بقوله: “وكم من عبقريات مرغتها في الوحـل خصومات خسـيسة”!
يفوز؟! نعم، لأنه يؤمن بأن الرفق هو زينة الأشياء، يسعى الى التسامح ورأب الصدع. وله في “سورة العصر” هداية وزاد. فنان يرسم بريشة أخلاقه لوحات من الجمال الإنساني البديع. يعلم أن هناك خيط رفيع بين فرض الاحترام وكسبه. يتعامل بإيجابية وفاعلية مع الاعتداءات اللفظية، يجَمِّل كلماته ويلبسها الحلل، ويرتقي بعفتها، فالفضاضة من خوارِم الحكمة وموانعها، يتبين ويتأنى فالتثبت حكمة، ابتسامته هي أرقى مراتب الدبلوماسية لديه. له استقلالية ذاتية، يهجر الثرى نحو الثريا، ويبحر الى العمق حينما يحتضن الباقون جميعاً الشاطئ ويتشبثون بالأمان. “الهدوء” هو “وضعه الافتراضي”. يوقن أن الكياسة هي لغة القوة، ينفعل مع الحياة ويتفاعل معها، في وصفة حكيمة يلخصها (الفاروق)- رضي الله عنه بقوله:” لستُ بالخِبِّ، ولا الخِبُّ يَخدعُني”؟”
مفعم بالحيوية والتفاؤل، فاعل في موقعه، مشارك لأفكاره، مساهم بمبادراته. يعلم أن عذوبة الماء في حركته وجريانه، ينقد الرأي والفكرة لا الشخص فيكون نقده بنَّاءً كأنه جملة اعتراضية في بنية النص الجميل. يجتهد في التفهم والاستنباط، أو يجتهد في التطبيق، فإن أصاب فله أجر وإن أخطأ فله أجران بإذن الله تعالى. يرى أن في الأخوة جمالاً ينبغي ألا يزول، يحفظ الود ولا ينكر الجميل؛ لا يحرق الجسور مع الآخرين.
لقد خضنا معارك كثيرة، وتعلمنا أن الكمال ليس لأحد. فلماذا الخلاف؟! ومن فقه الأولين، ليكن حظ أخيك منك ثلاثاً: إن لم تنفعه فلا تضره، وإن لم تفرحه فلا تغمه، وإن لم تمدحه فلا تذمه. وليكن منهجك قول موسى في أخيه هارون عليهما السلام (هو خيرٌ مني)، ولك في شعر إيليا أبو ماضي حكمة:
يَـا أَخِي لاَ تَمِـلْ بِـوَجْهِـكَ عَنِّي مَا أَنَا فَحْمَةٌ وَلاَ أَنْتَ فَرْقَدْ
اغتيال الحكمة
في زوايا حياتنا، يتم اغتيال الحكمة ليلاً ونهاراً، سراً وجهراً. فمنهم من “يعجبه إقبال الناس إليه، ولا يعلم أنهم مع الدهر عليه، وما أتوا إلا لمرادهم فيه”. ومنهم (النافخ) و(الباحث) عن أسباب الحرب في براميل البارود، و(المستشار) الذي يقدم استشارات ناجحة بحلول فاشلة. ومنهم مستعجل الأحكام الذي يعدم الحقيقة ثم يأتيك معتذرا! ولم يعلم أن على النابل أن يتأنى، فالسهم متى انطلق لا يعود. ومنهم من لديه مشكلة “تعظيم الذات”؛ “يرى نفسه ديكاً لا تشرق الشمس كل صباح إلا لكي تستمتع بمهارته في الصياح”! يزكي نفسه ويتزين ويستكثر بما ليس عنده، ولم يعلم أن (المتشبع بما لم يعط كَلابِس ثوبي زُور) [رواه البخاري]. يستكثر عمله، ويستقل عمل غيره، فيزل بقدميه إلى مستنقع العجب. فيفضحه الشافعي رحمه الله بقوله: من سامَ بنفسه فوق ما يستحق رده الله إلى قيمته. ولما بلغ عمر رضي الله عنه أن ابناً له قد اتخذ خاتماً واتخذ له فصاً بألف درهم، فكتب له: بلغني أنك اشتريت فصاً لخاتمك بألف درهم، فبعه، واشبع به ألف جائع، واتخذ خاتماً من حديد واكتب عليه (رحم الله امرئ عرف قدر نفسه)!
وهناك من يرون أنفسهم “أقوياء” بل يصل بهم الحال إلى حد الإنكار. “وكم من أطناب ظنت أنها راسيات، كسرتها الرياح وصارت في قبرها تتململ”! و”القشة” ستظل قشة وإن تصورت نفسها جبلاً عظيماً، وعند الفرنسيين: الدخان يخرج من كل السطوح! وهناك من يحب البقاء ضميراً مستتراً! يثير الغبار، يشكك، ويثبط العزائم. يتقمص دور الضحية تارة، ودور المنقذ تارة أخرى. وهناك من يجيد النظر من نظارات سوداء معتمة لا من نوافذ زجاجية، فلا يرى الأشياء على حقيقتها، بل من وجهة نظره هو فقط. وهناك من يريد الفوز على حساب معنويات الاخرين، يدمرون لا يعمرون، يفتحون الأبواب لكنهم يصمُّون الآذان. وهناك (المستفزون) و(المستأسدون) يضايقونك بقبضات وجوههم ونبرات أصواتهم، تعرفهم بسيماهم، يتكلمون كثيراً لكنهم لا يقولون شيئاً! وهناك (الطوافون) الباحثون عن الزلات والهفوات. ممن يوغرون الصدور، ويكيلون التهم كيلاً، دون تثبت، يطيرون مع كل ناعق، قد امتلأت كنانهم بسهام النقد اللاذع. والمتشابهون يجتمعون! يمارسون اللغة التجديفية، يهمسون الكلمات همساً، ويرخون آذانهم سمعاً، خشية طارق! فلا من وقتهم استفادوا، ولا غيرهم أفادوا. وفي الصحيحين: إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله، لا يدري ما تبلغ، (وفي رواية: لا يلقي لها بالا) يهوي بها في النار أبعد ما بين السماء والأرض، وحقاً إنهم هم المفلسون!
كل يمارس اغتيال الحكمة بطريقته، يثقبون السفينة التي نبحر بها، ويرمون حجراً في البئر التي نشرب منها. وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً. ثم يشتكون ويتباكون، فيذكرني ذلك بخطيب الجمعة الذي جعل المصلين يجهشون بالبكاءً تأثراً وخشوعاً، وبعد انتهاء الصلاة خرج (جحا) فلم يجد حذاءه، فصاح: إذا كنتم كلكم تبكون، فمن ذا الذي سرق الحذاء!
قانون الارتداد
الوردة تنمو مع أشواكها، والكون نظام قائم رغم كل صفات التضاد فيه، لكنه التناقض الذي يحرك الحياة. والتضاد -عند علماء اللغة- أشد أنواع البيان. والتكامل هو الجوهر، والجميل يجذب الجميل، وفي المثل العربي كما تراني يا جميل أراك. لتدرك السلام انشر السلام، ولتنال الحب، ابذل الحب، وإن أردت الفهم، فأسع للفهم، وإن أردت الولاء، فقدم الولاء. إنها (الرَحَى) إن وضعت بها رملاً فلا تتوقع أن تعطيك دقيقاً! ولكي “تصطاد الأسماك، تحتاج لأن تطعمها ما تحبه هيَ وليس ما تحبه أنت”. والمطر ينمي الزهر وليس الرعد، وكيف يضحك المَرجُ إنْ لم يَبْكِ السحاب؟!
ومَنْ غَرَسَ الحَنْظَلَ لا يرتجى أَنْ يشْتري السُكرَ من غَرْسَتِه
إن من أعظم مواهب الإنسان هي قدرته على حب الناس. فعِشْ جابراً للخواطر، فما أعظم كسرها، ولا تهتكْ سترَ الكلماتِ ولا ترفع حجابَ الأخوة، وإذا أخطأت فاعتذر فالمؤمن أواه منيب، والحر من راعى وِدَادَ لحظة. مد يدك إلى من يسقط ولا تشمت (كَذلِكَ كُنتُم مِّن قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا)، سورة النساء، الآية: 94. وعند (ابن أبي الحديد): لا تتطاول على من هو فوقك، فيستخف بك من هو دونك. وليكن لك في قول (جلال الدين الرومي) استدلال جميل: “سلام على الطيبين الذين إذا رأوا جداراً يريد أن ينقض أقاموه!.
سِرْ مع الهمم العالية، ولا تقتل الذبابة بمدفع بل جفف المستنقع. اترك المدرجات للمشجعين، وانزل الى الملعب، وستجد الحقيقة! ولا تعمد إلى ما ستر الله فتبديه، فما تزرعه ستحصده، ولا “تمدن عينيك إلى إذا ما أراد الله أن يعطيك إياه لأعطاك”. والماءُ إذا بلغ قُلَتين لم يحمل الخبث. ودودة القز تنتج الحرير، والعنكبوت ينسج شبكة الذباب، فاختر لنفسك موقعها!
يامن تنشد الحكمة: كلنا كالقمر.. له جانب مظلم، فلا تنصرف إلى نقاط الضعف والخلل فيمن حولك، ففي ذلك استنزاف لطاقتك، فَمَنْ حَامَ حول الحمى يوشك أن يرتع فيه، ومن تتبع عورات الآخرين يوشك الله أن يفضحه ولو في جوف بيته (رواه الترمذي). وفي الأثر: والله ما منعني من أن أشمت بأخٍ لي إلا مخافة أن يبتليني الله بما ابتلاه.
خطط للرحيل
سياتي يوم ما نشعر فيه بالندم الشديد لأننا سمحنا باللحظات الجميلة أن تنساب من بين أصابعنا، وأضعنا أحبابنا وأصدقاءنا وزملاءنا بإرادتنا، وعملنا بقصد أو من غير قصد من أجل استعدائهم! وفي المثل الهندي (تُعرفُ قيمة الملح عندما يُفْتَقَد)، لقد تنكرنا لكل جميل، ونسينا كل معروف، وعندما تقرع أجراس المغادرة باستقالة أو تقاعدٍ أو بمنية لا قدر الله، فإن أكثر ما سيؤلمنا حينها هو الندم على لحظات الصدق والوفاء التي لم نمنحها لهم. وفي النهاية سنذهب وسيذهبون، كأن شيء لم يكن؛ وما دام الفراق الحسي هو قدرنا، فليكن لنا لقاءً معنوياً أزلياً، ولا زال لدينا وقت ومتسع! ولعلي بهذا كما قال صخر:
لَعَمْرِي لَقَدْ نَبَهْتُ مَنْ كَانَ نَائِمَاً وأَسْمَعْتُ مَنْ كَانَتْ لَهُ أُذُنَانِ
استدرك حكمتك! وتيقن أن وراء كل ليلٍ فجرٌ يبتسم، ووراء كل شتاءٍ ربيعٌ يختلج، فأنِرْ الزاوية التي أنت فيها، والعفو عند الإساءة انتقام رقيق، والبغض سلاح الضعفاء، والقَدَرُ أستاذ في تصفية الحسابات! لا تُحبَطْ، فالغدُ أجمل بإذن الله.
فإن لم يُجْدِ فنُ الاحتواء، ولم تُفلِحْ جهودك الحكيمة في إيجاد أرضية مشتركة للتفاهم مع المحيطين بك، فأسِرَّها في نفسك، فلك بيوسف عليه السلام قدوة، والجأ للسكينة فهي حجر الفلاسفة، ولقانون (الاضطرار) فأنت معذور، وخطط للرحيل الصامت، ففي ذلك حكمة واتزاناً، وعند الشافعي-رحمه الله:
وجــدتُ سكوتي متجراً فلزمتــهُ إذَا لَمْ أجِدْ رِبحاً فَلَسْتُ بِخَاسِرِ
وَمَا الصَّمْتُ إلاَّ في الرِّجَالِ مَتَاجرٌ وتاجــرهُ يعلــــو على كل تاجــــــرِ
فإن لم يفلح ذلك كله، فلمثل هؤلاء، كما قال عبد الله بن المبارك- رحمه الله: (تُقشرُ العصي)، واضرب حديداً حامياً، ففي ذلك حكمة!
فقسا ليزدجروا ومنْ يكُ حازماً فَليَقْسُ أحياناً وحيناً يَرْحَمُ
ثم رتل دوماً همسة من الوحي (أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ) سورة هود، الآية:81. وردَّ موقناً بها من أعماقك: بلى يارب بلى يارب! ثم الهج بالدعاء: “اللهم ارزقني الحكمة، وامنحني البصيرة، وأملأ قلبي محبةً وفرحاً باتساع سمائك، وسعادة خالدة بخلود جناتك”.
*رئيس قسم التسويق والعلاقات الدولية – هيئة التقييس
دكتوراه في سيكولوجيا التطوير القيادي والمؤسسي