ما تمر به دول العالم قاطبة اليوم من تداعيات أزمة جائحة فيروس كورونا المستجد COVID-19وما خلفه من أزمات اقتصادية ما فتأت تلقي بظلالها على العالم برمته وترنحت بسببه اقتصاديات الدول. فقد قدرت الخسائر البشرية إلى ما يزيد عن 176 مليون مصاب وما يقارب 4 مليون حالة وفاة حتى تاريخه بحسب الأرقام الرسمية المعلنة.
وتستمر الجائحة بإلقاء ظلالها على مناحي عدة من حياتنا، وأظهرت جلياً مدى ما نلحقه نحن البشر بكوكبنا وما أحدثه التغير المناخي في آخر 20 عاماً كنتيجة للتطور الصناعي وكثافة استخدام وسائل المواصلات.
ولعل ما واجهته البشرية من إغلاقات مفروضة وإن كانت مؤقتة خلال عامي 2020م وبدايات عام 2021م نجم عنها انخفاض مستوى الانبعاثات من الغازات الدفيئة كنتيجة لتوقف الأنشطة في مختلف القطاعات، ولو لفترة وجيزة، والتي أماطت اللثام عن أمور مهمة، ولفتت الأنظار إلى أهمية الحفاظ على مستويات معينة من جودة الحياة.
ففي بحث أوروبي نشر في مجلة “Earth System Science Data” كشف عن تراجع انبعاثات الكربون العالمية الناتجة عن الفحم والغاز بنسبة 7% خلال عام 2020م مقارنة بعام 2019م، حيث انخفضت الكمية بمقدار 24 مليار طن متري إلى المستوى الحال البالغ 34 مليار طن متري من ثاني أكسيد الكربون.
وفي دولة الإمارات العربية المتحدة حيث تشكل جودة الهواء إحدى القضايا ذات الأولوية لانعكاساتها الصحية والاقتصادية والبيئية، تم تحقيق تحسن ملموس في جودة الهواء خلال جائحة كورونا، حيث إن الفترة من أبريل إلى يونيو من عام 2020م شهدت تحسناً ملموساً في جودة الهواء على مستوى الدولة بمعدل 40-50%، كنتيجة لانخفاض حركة المرور ووسائل النقل والمواصلات والأنشطة البشرية الأخرى في ظل جائحة كورونا.
كما سجلت انبعاثات غاز ثاني أكسيد النيتروجين والتي تتسبب في معظمها منظومة النقل والمواصلات انخفاضاً بنسبة 45% في خمسة أشهر خلال عام 2020م مقارنة بالفترة نفسها من فبراير إلى يونيو من العام الماضي.
قطاع النقل كان ومازال ذو صلة مباشرة على التغير المناخي لما له من أثر مباشر في الغازات الدفيئة المنبعثة من وسائل التنقل. ولعل الطلب المتنامي على المركبات الكهربائية في عام 2020م على وجه الخصوص، ساهم أيضاً في خفض متوسط انبعاثات غاز ثاني أكسيد الكربون CO2 في أوروبا بنسبة 12% مقارنة بعام 2019م وفق دراسة أجريت في 21 دولة أوروبية، خلصت الدراسة إلى أن المركبات الكهربائية تقود انخفاض الانبعاثات الكربونية وكانت الجائحة في أوروبا تحديداً سبباً مباشراً لدعم تبني نموذج المركبات الكهربائية بتشجيع استخدام وسائل تنقل خضراء ومستدامة بالإضافة إلى مجموعة من الإعفاءات والحوافز الحكومية للمركبات ذات الانبعاثات المنخفضة والصفرية. أدى ذلك كله إلى تحول شريحة من المستهلكين خلال الجائحة من مركبات ذات نظام محركات الاحتراق الداخلي إلى بدائل من مركبات ذات انبعاثات أقل مدعومة بعروض تسويقية لجذب المستهلكين لشراء المركبات الكهربائية والهجينة.
وبالرغم من أن عدد المركبات الكهربائية عالمياً وصل إلى 7.2 مليون مركبة تقريباً إلا أنها تمثل أقل من 1% من إجمالي المركبات البالغ عددها 1.4 مليار مركبة، ويتوقع أن يصل عدد المركبات الكهربائية إلى 230 مليون مركبة في عام 2030م بما يعادل نسبة 5% من إجمالي المركبات على مستوى العالم.
كما كان للحراك السياسي العالمي دور بارز أيضاً ممثلاً في القيادة الجديدة للولايات المتحدة الأمريكية فيما يخص مواجهة ظاهرة تغير المناخ باستضافتها القمة الافتراضية للتغير المناخي في شهر أبريل من العام الجاري بحضور 40 من زعماء العالم والتي كان لها أثر كبير في دعم توجهات وسياسات العديد من الدول كجزء من إسهاماتها وجهودها في التصدي للتغير المناخي، حيث تعهد الرئيس الأمريكي جو بايدن خلال القمة بخفض انبعاثات الكربون في الولايات المتحدة الأمريكية بحلول عام 2030م بنسبة تتراوح ما بين 50-52 % مقارنة بمستويات عام 2005م، وهو ما يمثل ضعف ما تم التعهد به مسبقاً من قبل الولايات المتحدة نفسها.
بدأت العديد من الدول مؤخراً إطلاق مبادرات من شأنها الخفض من الكربون، ففي الولايات المتحدة الأمريكية أطلقت العاصمة واشنطن مبادرة 2030Clean Cars استعداداً لمستقبل المركبات الكهربائية والذي من شأنه إنهاء بيع أو تسجيل المركبات العاملة بالوقود في واشنطن بدءاً من عام 2030م.
وأوروبا ليست بمنأى عن ذلك، فتعتبر دول مثل النرويج وهولندا وبريطانيا وسويسرا من الدول السباقة في التحول للمركبات الكهربائية بل والرائدة في تبنيها، ففي النرويج على سبيل المثال تجاوزت الحصة السوقية للمركبات الكهربائية مثيلاتها من المركبات التي تعمل بالوقود الأحفوري إذ بلغت نسبتها 54.3 % نهاية عام 2020م من المركبات المباعة وهو مستوى قياسي عالمي مقارنة ب 42.4 % في عام 2019م، وبذلك تسعى النرويج لأن تصبح أول دولة تنهي مبيعات المركبات التي تعمل بالبنزين والديزل بحلول 2025م، وتعفي النرويج -وهي بلد منتج للنفط- المركبات الكهربائية من الضرائب التي تُفرض على تلك التي تعتمد على الوقود الأحفوري.
وتعول هولندا كدولة تتصدر قائمة الدول الأوروبية الأكثر استعداداً للتحول إلى المركبات الكهربائية والتي تمتلك السوق الأكثر نضجاً على مستوى القارة العجوز بفضل النمو الكبير في محطات الشحن الكهربائي وتحسين البنية التحتية للشحن ومن ثم التوسع في تسجيلات المركبات الكهربائية مدعماً بالحوافز الحكومية.
وتخطط الحكومة في بريطانيا للبدء في تطبيق الحظر على المركبات التي تعمل بالوقود الأحفوري والهجينة عام 2035م بدلًا من عام 2040م، مما ساهم في زيادة تسجيلات المركبات الكهربائي، كما تعهدت فرنسا أيضاً بإخراج المركبات الجديدة التي تعمل على البنزين والديزل من السوق مع حلول عام 2040م.
وهناك دول أوروبية أخرى لا تقل جاهزية عن هولندا والنرويج وبريطانيا، حيث إن إيرلندا والسويد هي أيضاً من الدول التي تولي اهتماماً بالملف البيئي، ووفقاً لوكالة البيئة الأوروبية، ينتج قطاع النقل حوالي %27 من انبعاثات ثاني أكسيد الكربون في الاتحاد الأوروبي، ومن ثم يعد التحول إلى المركبات الكهربائية أحد أسهل الطرق لتقليل انبعاثات الكربون والمساعدة في معالجة تغير المناخ وتتناغم هذه المبادرة مع المبادرات الخضراء الأخرى التي تبنتها هذه الدول لتقليل الانبعاثات الكربونية وتحسين جودة الحياة.
وللعملاق الأسيوي “اليابان” أيضاً نصيب من هذا الحراك، حيث تنوي اليابان أن تكون جميع المركبات الجديدة المباعة مع حلول منتصف العِقد الثالث من الألفية، هجينة أو كهربائية. وكشفت الحكومة عن خطوات راسخة لتحقيق أهدافها، في أن تكون انبعاثات الكربون في البلاد محايدة مع حلول عام 2050م في خطوة ستدفع تدريجياً بالمركبات التي تعمل على محركات البنزين خارج سوق المركبات الجديدة نحو تحقيق هدف “100% مركبات كهربائية” خلال 15 عاماً تقريباً.
ستمثِّل أسواق المركبات الجديدة التي لا تضمُّ إلا المركبات الهجينة والكهربائية نقلة نوعية، نظراً لأنَّها لا تشكل إلا 29% من تسجيل المركبات الجديدة في اليابان، التي يصل عددها إلى 5.2 مليون مركبة جديدة وفقاً لرابطة مصنِّعي السيارات اليابانية.
ونحن في دولة الإمارات العربية المتحدة أيضا لسنا بمنأى عن هذا الحراك، وتحرص الدولة على مواكبة الجهود وإطلاق المبادرات الخضراء في سبيل الوصول لمصادر طاقة متجددة تساهم في خفض الانبعاثات الكربونية وتحفيز وتسريع عجلة التحول للمركبات الكهربائية.
ونظراً لمساهمة قطاع النقل والمواصلات في الانبعاثات الغازية وإدراك أهمية التنقل النظيف أو الأخضر، ارتفع عدد طرازات المركبات الكهربائية المعتمدة بالدولة من 3 طرازات بداية عام 2017م إلى 10 طرازات نهاية عام 2020م بنسبة 8.7% زيادة تراكمية في عدد الطرازات المعتمدة وطنياً. وتم تحسين البنية التحتية للشحن وزيادة أعداد محطات الشحن الكهربائية بالدولة لتصل إلى ما يزيد عن 300 شاحن كهربائي كنتاج لهذه الاستراتيجية، كما اعتمدت دولة الإمارات ضمن جهودها الوطنية خارطة طريق نحو التحول الى وسائل مواصلات عامة عديمة الانبعاثات بحلول عام 2025م.
راهنَّا من قبل على أن تغيرات كثيرة قد تطرأ على جوانب عديدة من حياتنا في مرحلة ما بعد كوفيد-19، وما التحول السريع للمركبات الكهربائية الذي يشهده العالم حالياً كجزء من جهود التصدي للتغير المناخي، إلا تصديقاً لما تم التنبؤ به وهو غيض من فيض. فهل نشهد في سنواتنا الخمس القادمة تغيرات أخرى.
لنرتقب فإن غداً لناظره قريب.
*مدير إدارة المواصفات – وزارة الصناعة والتكنولوجيا المتقدمة