في ظل الأزمة العالمية لتزايد النفايات جراء تفاقم الاستهلاك من جهة وتعدد أصناف المنتجات من جهة أخرى، فإن هناك حاجة إلى إعادة النظر في آليات التعامل مع الموجة الاستهلاكية للخروج من الأزمة.
والتقييس يقف دائماً مسانداً لكافة الأطراف بما يحقق التوازن بينها، إذ يمنح للمنتجين الخصائص التي ترفع جودة المنتج وتخفِض الهدر في الإنتاج، ويرفع مستوى الثقة والسلامة لدى مستخدمي المنتج، كما أن التقييس للجهات الرقابية هو الأداة الفاعلة التي تبنى عليه اللوائح الفنية للمنتج أو لاختباره للتحقق من مطابقته.
ومن أمثلة المنتجات التي لا غنى عنها للمصنعين والمستهلكين معاً هي المواد البلاستيكية، وبحسب إحصائيات برنامج الأمم المتحدة للبيئة، فإن إجمالي الإنتاج العالمي للبلاستيك يفوق 400 مليون طن سنوياً ([1])، والنمو يزداد بشكل كبير، إذ حل البلاستيك مكان مواد أخرى كالخشب والزجاج والمعادن، نظراً لما يتمتع به من خصائص فائقة في التصميم وفقاً للاحتياجات الفنية المطلوبة منه، ولما يعطيه من نتائج أفضل من المواد الأخرى المشار إليها، أو غيرها، سواء تم استخدام البلاستيك في التكنولوجيا أو الطب أو في المواصلات الخ. فعلى سبيل المثال يعمل البلاستيك على تقليل استهلاك الوقود لخفة وزنه حين يتم استخدامه في تصميم الناقلات أو في التصنيع أو في تغليف المنتجات التي يتم نقلها. كما أن خصائص البلاستيك في العزل الحراري والكهربائي أعطته ميزات إضافية إلى جانب خصائصه واستخداماته الأخرى المتنامية. ويصاحب هذا الاستخدام الهائل أيضا مخلفات هائلة، وهي التي يعمل كلٌ من المنتجين والسلطات الرقابية والمنظمات البيئية على بحث سبل تقليلها سواء بالأدوات الرقابية أو بالتقدم العلمي أو بالتوعية.
وقد بدأ العالم يتجه إلى تقوية الاقتصاد الدائري في المنتجات البلاستيكية عبر تقوية أنظمة إدارة النفايات من خلال تعديل طريقة إنتاج المواد البلاستيكية لتكون قابلة للتدوير، وبالتالي تقليل الهدر والتمكن من استرداد الطاقة في هذه المنتجات. ومن جملة المساعي الداعمة في هذا الاتجاه، ما انتهجته مملكة البحرين في تطبيق اللائحة الفنية للمنتجات البلاستيكية والتي تم بدء تطبيقها على الأكياس البلاستيكية ذات الاستخدام لمرة واحدة.
وبحسب المنتجين للأكياس البلاستيكية الجديدة، فإنها -فضلاً عن كونها قابلة للتحلل- قابلة لإعادة التدوير في حال تم جمعها بشكل سليم قبل أن تبدأ في التحلل، ما يدعم استغلال الموارد البلاستيكية بشكل أفضل، كما إنها تقلل من حجم النفايات التي يتسبب تراكمها أو حرقها لأضرار بيئية مختلفة، إذ في حال وصلت هذه الأكياس -القابلة للتحلل- إلى مكبات النفايات فإنها ستتحلل بشكل أسرع من غيرها، وفي حال تسربت وتطايرت، فإنها ستتحلل أيضا في حدود السنة أو السنتين بدلاً من المكوث لعشرات السنين محتفظة بكيانها ومتسببة في التلوث البلاستيكي.
إن خفة الاكياس البلاستيكية تجعلها تتطاير وتخرج عن المسار المخصص لها، سواء نظام التدوير أو نظام تجميع النفايات، أو نظام التحلل، أو غيرها من الأنظمة الجيدة لإدارتها، وبالتالي تتسبب في العديد من المشاكل البيئية، فهي تعلق في الكائنات وتشل حركتها، أو قد تبتلعها وتجعل معدتها ممتلئة بالشبع الكاذب إلى أن تنفق جوعاً، أو تعلق بالنباتات أو المرجان البحرية فتمنعها من التهوية، أو تُطمر تحت التربة بسبب بالرياح أو سقوط الأمطار فتمنع التربة من التنفس والتهوية، وقد تتسبب في انسداد مجاري تصريف مياه الأمطار. وتبقى هذه المواد الضارة دون تحلل لسنين طويلة، بل قد تتحلل الحيوانات الآكلة لها ويتبقى منها المواد البلاستيكية التي تعاود في الظهور مرة أخرى. إنها خطر متكرر ودوار.
وبحسب الاحصائيات فإن استخدام الأكياس البلاستيكية على المستوى العالمي يبلغ حوالي 500 بليون كيس، ما يشكل حوالي مليون كيس في الدقيقة، والاستهلاك الفردي لها يبلغ 300 كيس في السنة، أي لا يكاد يخلو يوم دون كيس بلاستيكي.
وبالرجوع إلى القرار الصادر بشأن اللائحة الفنية للمنتجات البلاستيكية، فقد دخل حيز النفاذ في مملكة البحرين في 25 يوليو 2019، وبدء تطبيقه على الأكياس البلاستيكية ذات الاستخدام لمرة واحدة لتكون قابلة للتحلل بالأكسدة ومن ثم تتحلل حيوياً.
والجدير بالذكر بأن مثل هذا القرار معمول به في كل من دولة الإمارات العربية المتحدة منذ 1 يناير 2014، وفي المملكة العربية السعودية منذ 14 أبريل 2017. وهناك بلدان عديدة ألزمت التحول إلى مثل هذه الأكياس كالبرازيل، والأرجنتين وصربيا وسلوفينيا، البوسنة والهرسك وباكستان والأردن وغيرها.
ولضمان ذلك تفرض اللائحة الحصول على ترخيص للأكياس للتأكد من مطابقتها للمتطلبات المحققة للهدف، وذلك من خلال الاختبارات الدالة على نوع البوليمر الداخل في تركيب الكيس ونوعية المواد المضافة فيه، وحدود العناصر الثقيلة، وغيرها من المتطلبات.
وبناء على التصريح الممنوح لها، يمكن وضع علامة المطابقة على الأكياس وطرحها في الأسواق، وتستكمل عملية الرقابة على المنافذ الحدودية والأسواق لضمان التحول للأكياس وتوافرها كخيار بديل عمّا كان يستخدم من قبل.
والفكرة من وراء الأكياس القابلة للتحلل هي أن البلاستيك عبارة عن جزيئات طويلة جداً تسمى بوليمرات مركبة من الهيدروكربونات، وهي ذرات الهيدروجين المرتبطة بذرات الكربون في سلاسل طويلة متشابكة، وتمنح هذه السلسلة الطويلة خاصية المرونة والقوة للأكياس.
وفي الوضع الطبيعي فإن البلاستيك يتحلل إلى كربون وماء في وجود الأكسجين، إلا أن هذا التفاعل شديد البطء. أما الاكياس الجديدة، فتضاف إليها مواد محفزة من شأنها كسر تلك السلاسل الكربونية على مرحلتين، الأولى عبر الأكسدة لتتحول إلى جزيئات صغيرة على نحو سريع جداً، ثم تتحلل تلك الجزيئات حيوياً إلى جزيئات أصغر في وجود الميكروبات، بحيث تصل في نهاية المطاف إلى جزئيات ماء وثاني أكسيد كربون.
إن التحول للأكياس البلاستيكية القابلة للتحلل ما هي إلا خطوة في مسار طويل للبحث عن البدائل للمنتجات الأكثر صديقة للبيئة وأكثر دعامة للاقتصاد الدائري وأحد الأدوات الأساسية لتحقيق الاقتصاد الأخضر.
وإن الخطوة الأهم هي الوعي بالأضرار الناجمة عن كثرة استعمال المنتجات البلاستيكية ذات الاستخدام لمرة مرة واحدة، فالجهات الرقابية لها دورها، والمصنعين لهم أدوارهم، ونحن كمستخدمين لتلك المنتجات لنا دورنا الذي لا يقل أهمية عمّا سبق. فمعرفتنا بحقائق أضرار البلاستيك يستوجب منّا فعلٌ للتغيير! فحين يكون خيارنا الأول دوماً هو استعمال الكيس البلاستيكي، والشرب بالكوب البلاستيكي، واستخدام الأعواد البلاستيكية، والأواني البلاستيكية، رغم وجود بدائل لها، فإننا من يدوّر عجلة التصنيع لتلك المنتجات، وإننا من سيدفع ثمن رد فعل الطبيعة على سلوكنا.
سابقاً كان النمط السائد هو إعادة استخدام المنتجات لمرات عديدة حتى تهرم. أما الآن فالنمط المتعارف عليه هو منتجات اللحظة!! كل ذلك مدعاة لهدر الطاقات والموارد بكثرة الاستهلاك دون مراعاة لكمية النفايات التي يطلقها كل واحد فينا، وضررها على البيئة وعلينا جميعاً. وإن غفلتنا عن الضرر الذي نسببه للطبيعة لن يمنع سريان قوانينها علينا، فقضايا الإضرار في حق الطبيعة الكونية لا تسجّل ضد مجهول… إذا لنخطو معاً لبيئة أفضل!
*مدير إدارة المواصفات والمقاييس – وزارة الصناعة والتجارة والسياحة بمملكة البحرين.
[1] UNEP (2018). SINGLE-USE PLASTICS