
افتتاحية بـ ( 4.8 تريليون دولار أمريكي)!
يشهد العالم اليوم واحدة من أكثر التحولات عمقًا منذ الثورة الصناعية؛ تحوّل تقوده الخوارزميات، وتغذيه البيانات، وتعيد تشكيل ملامحه تقنيات الذكاء الاصطناعي والتحول الرقمي التي تغلغلت في كل تفاصيل حياتنا!
وتشير تقديرات الأونكتاد (2025م) إلى أن سوق الذكاء الاصطناعي العالمي يتجه نحو قفزة قياسية من189 مليار دولار أمريكي في عام 2023م إلى نحو4.8 تريليون دولار بحلول عام 2033م. وهي قفزة ليست مالية فقط، بل تأكيد على أن الذكاء الاصطناعي يعيد رسم خريطة الاقتصاد العالمي، بشكل ينقل العالم إلى اقتصاد رقمي يعتمد على البيانات والتحليلات العميقة وأنظمة التعلّم الذكي، مع إعادة هندسة كاملة لسلاسل القيمة والصناعات التقليدية، وفتح مجالات اقتصادية جديدة تقوم على التحليل التنبؤي، وتعلّم الآلة، والمعالجة الفائقة للبيانات، وتكون فيه التكنولوجيا قادرة على صناعة فجوات جديدة بقدر ما تتيح فرصاً غير مسبوق؛ وأن الذكاء الاصطناعي ليس مجرد تقنية، بل قوة استراتيجية تحدد اتجاهات الابتكار، وأدوات المنافسة، ومستقبل الأسواق. والدول التي تستثمر اليوم في بناء قدراتها وتحسين حوكمة الذكاء الاصطناعي ستتحول غدًا إلى مراكز ثقل عالمية، بينما تتسع الفجوة أمام الاقتصادات المتأخرة، في ظل تركّز براءات الاختراع والاستثمارات الضخمة في عدد محدود من الدول.
وسط هذا التحول، تقف منظومة التقييس عند لحظة مفصلية، لحظة يتطلب فيها العالم جيلاً جديدًا من مواصفات قياسية ولوائح وإجراءات أكثر سرعة ومرونة وكفاءة، ضمن البنية التحتية للجودة، وما تشكله من قوة رافعة لأي اقتصاد أو صناعة أو خدمات. فالتقنيات تتطور اليوم بوتيرة تتجاوز كثيراً الإيقاع التقليدي لإعداد المواصفات والمقاييس واللوائح الفنية وإجراءات التحقق من المطابقة والاعتماد، الأمر الذي يحتم وجود منظومة تقييس أكثر سرعة ومرونة، قادرة على التعامل مع تقنيات تتغير في شهور لا سنوات؛ تساعد المصنعين، والمطورين، والجهات الرقابية، والمؤسسات الحكومية على العمل بثقة وفاعلية بديناميكية غير معهدوه.
ولذا، لم تعد مهمة التقييس وظيفة تنظيمية بحتة أو مجرد إعداد وثائق فنية وتشريعية، بل أصبحت مهمة مستقبلية ذات أبعاد اقتصادية وتنموية واجتماعية، مهمة تسعى إلى تحقيق توازن دقيق بين تعزيز الابتكار ونشر التقنيات، وضمان ألا يتحول الذكاء الاصطناعي إلى قوة تتقدم على حساب القيم والعدالة وحماية الإنسان. وفي هذا السياق، تصبح الهيئات الوطنية والإقليمية والدولية للتقييس التي تتبنى نهجاً استباقياً للتعامل مع الذكاء الاصطناعي هي الجهات التي تحدد شكل المستقبل وتصوغ قواعده.
هذه الافتتاحية ليست مجرد قراءة لواقع متغير، بل هي دعوة للتفكير والعمل:
كيف يمكن لمنظومات التقييس أن تتحول إلى محرك رئيسي للتنافسية والابتكار؟
سؤال جوهري يحدد جوهر هذا المقال، الذي نحاول من خلاله رسم صورة أعمق للتحديات والفرص لمستقبل التقييس الوطني والإقليمي والدولي الذي يتشكل أمامنا بسرعة غير مسبوقة.
لماذا يغير الذكاء الاصطناعي قواعد التقييس؟
يُعدّ الذكاء الاصطناعي أحد أكثر التقنيات تحولاً وتأثيراً في العصر الحديث، وهو يفرض واقعًا جديدًا يصعب على نماذج التقييس التقليدية استيعابه بالأسلوب نفسه الذي اعتدناه مع المنتجات والأنظمة الثابتة. فالذكاء الاصطناعي لا يقدم منتجاً نهائياً يمكن اختباره مرة واحدة وإغلاق ملفه، بل يقدم نظاماً يتعلم ويتغير ويتخذ قرارات، ويتفاعل مع بيئات معقدة، ويؤثر مباشرة في حياة البشر وحقوقهم وأمنهم.
من هذا المنطلق، لم يعد التقييس مجرد أداة لضبط وضمان الجودة، بل أصبح وسيلة لضمان الشفافية والموثوقية والسلامة وحماية الحقوق الرقمية. وهذا يتطلب مواصفات ومقاييس وإجراءات تقييم مطابقة وإجراءات اعتماد أكثر مرونة، قادرة على مواكبة التغير المستمر في أداء هذه الأنظمة الذكية.
وبشكل تفصيلي أكثر، يتمثل التحدي الجوهري في تقييس الذكاء الاصطناعي في ثلاث خصائص رئيسية: أولها التعلم المستمر، إذ لا تبقى الأنظمة الذكية ثابتة بعد إطلاقها، بل تتطور باستمرار مع البيانات الجديدة، مما يتطلب مواصفات ديناميكية تراقب الأداء بعد الإطلاق وتحدّث ضوابط السلامة والجودة وفق تغير سلوك الخوارزمية. وثانيها القرارات الآلية التي تتخذها الأنظمة دون تدخل بشري، بما يثير أسئلة حساسة حول المسؤولية، وقياس المخاطر، وآليات توثيق القرارات، ليصبح التقييس عنصراً أساسياً في تعزيز الشفافية وحماية المستهلك. أما الخاصية الثالثة فهي اللاتماثلية في النتائج، حيث يمكن للنظام ذاته أن ينتج مخرجات مختلفة اعتمادًا على البيانات الواردة، ما يفرض مواصفات جديدة تُقيّم الخوارزمية والبيانات والنتائج مجتمعة لضمان العدالة والموثوقية والحياد.
مواصفات الذكاء الاصطناعي: من يكتب القواعد الآن؟
يشهد العالم سباقًا متسارعًا لكتابة دستور الذكاء الاصطناعي، تقوده جهات دولية وإقليمية ووطنية، لكل منها دور فني واضح:
- منظمة التقييس الدولية (ISO) بالتعاون مع اللجنة الدولية الكهروتقنية (IEC) تقودان عبر اللجنة المشتركة (ISO/IEC JTC 1/SC 42 ) تطوير مواصفات رئيسية، مثل تصنيف أنظمة الذكاء الاصطناعي، وإدارة المخاطر الخوارزمية، ومتطلبات الشفافية، ومقاييس الأداء.
- الاتحاد الدولي للاتصالات (ITU) يركز على اختبارات المطابقة للذكاء الاصطناعي في شبكات الاتصالات والبيانات الضخمة.
“لأول مرة، يصبح التقييس نفسه جزءًا من الثورة التكنولوجية، وليس مجرد إطار يحاول اللحاق بها”.
في تطور مهم، أطلقت منظمات التقييس العالمية تحت مظلة التعاون الثلاثي (World Standards Cooperation) قاعدة بيانات دولية للمواصفات الفنية للذكاء الاصطناعي، هي «AI Standards Exchange Database»، كمنصة موحدة تجمع مئات المواصفات والتقارير الفنية ذات الصلة بالذكاء الاصطناعي من تحالف المنظمات الدولية المعنية بالتقييس ( IEC وISO و(ITU وجهات أخرى، بما يسهم في جعل مشهد المواصفات أكثر شفافية وقابلية للفهم والمواءمة، ويتيح لصناع السياسات والقطاع الخاص والجهات البحثية مرجعا واحدا لتحليل الوضع القائم وتحديد الفجوات المستقبلية.
وعلى المستوى الإقليمي، تعمل اللجنة الأوروبية للتقييس (CEN) واللجنة الأوروبية للتقييس الكهروتقني (CENELEC)على تطوير أطر تطبيق الاتحاد الأوروبي للذكاء الاصطناعي، ومنها دعم المنهجية الفنية لتطبيق (EU AI Act ). كما تعد مبادرة “تحديث الإطار التشريعي الجديد (NLF) للمنتجات في الاتحاد الأوروبي”، بما في ذلك تحديث القواعد الخاصة بالهيئات المُخطرة المكلفة بتقييم المطابقة، أمراً أساسياً لدمج الحلول الرقمية في تشريعات الاتحاد الأوروبي (مثل: إدخال “جواز المنتج الرقمي”)، ودعم أهداف الاتحاد المتعلقة بالاقتصاد الدائري، ومعالجة الممارسات غير الكافية لبعض الهيئات المُخطرَة بصورة أفضل. كما أعد المعهد الأوروبي لمواصفات الاتصالات (ETSI) متطلبات الأمن السيبراني للذكاء الاصطناعي. وقد اجتازت هذا المواصفة مرحلة التصويت، وأصبحت الآن في طريقها لتعتمد كـمواصفة أوروبية كاملة.
وفي المقابل، يلعب معهد مهندسي الكهرباء والإلكترونيات (IEEE) دورا بارزًا في تطوير مواصفات مهمة، مثل:
- المواصفة((IEEE 7000-2021 : الإطار النموذجي لمعالجة الاعتبارات الأخلاقية خلال مراحل تصميم الأنظمة،
- المواصفة (IEEE2801:2022): الخاصة بإدارة وأمان بيانات الصحة الرقمية (Digital Health Data).
- كود الأخلاق (IEEE Code of Ethics)، الذي يمثل التزاماً شاملاً من المعهد بضمان النزاهة والمسؤولية واحترام الإنسان، وحماية السلامة والخصوصية، وتفادي التحيز والأذى، وتحقيق الشفافية، والالتزام بالسلوك المهني الآمن والمسؤول في تطوير تقنيات الذكاء الاصطناعي والتقنيات الناشئة.
كما يُعد اتحاد البنية التحتية لجودة الذكاء الاصطناعي (AIQI) الذي تأسس في سبتمبر 2024م، مبادرة دولية رائدة تهدف إلى ربط التقييس والبنية التحتية للجودة بالذكاء الاصطناعي، لضمان تطوير ونشر تقنيات ذكاء اصطناعي آمنة، موثوقة، ومسؤولة على المستوى العالمي. وقد انبثق الاتحاد عن شراكة استراتيجية بين (TIC Council ) – اتحادًا دوليًا يمثّل شركات الاختبار والتفتيش وإصدار الشهادات المستقلة- وهيئة الاعتماد البريطانية (UKAS) عقب توقيع Walbrook Accord في عام 2024م، ليشكل إطاراً مؤسسياً يجمع جهات الاعتماد، التفتيش، الفحص، الشهادات، المختبرات، ومنظمات التقييس من أكثر من 25 دولة. ويركز الاتحاد على دعم جهات البنية التحتية للجودة على المستوى العالمي لضمان التطوير الآمن والموثوق والأخلاقي لتقنيات الذكاء الاصطناعي، ودعم استخدام المواصفات القياسية الدولية في الحوكمة والتشريع، وتعزيز التنسيق بين صانعي السياسات وجهات البنية التحتية للجودة، بما يسهم في مواءمة التشريعات الفنية، وبناء الثقة العابرة للحدود، وترسيخ دور التقييس كركيزة أساسية في الحوكمة العالمية للذكاء الاصطناعي.
ومع دخول دول كثيرة في هذه المنظومة بصورة فاعلة، يصبح التقييس في مجال الذكاء الاصطناعي أداة من أدوات السياسة الدولية والقوة الاقتصادية؛ فمن ينجح في ترسيخ مواصفاته بوصفها مرجعاً عالمياً، يصبح قادراً على التأثير في أسواق التطبيقات الذكية، وتشكيل قواعد المنافسة والتجارة والابتكار على المدى الطويل.
وفي هذا السياق، أعلنت كل من المنظمة الدولية للتقييس (ISO) واللجنة الكهروتقنية الدولية (IEC) والاتحاد الدولي للاتصالات (ITU )عن إطلاق قمة المواصفات الدولية للذكاء الاصطناعي تستضيفها الوكالة الكورية للمواصفات والتقنية (KATS) في الفترة (02-03 ديسمبر 2025م)، بحضور رئيس الوزراء الكوري كيم مين-سيوك، وعدد من رؤساء وأمناء المنظمات الدولية والخبراء والمتخصصين في المجال، من أجل تحديد أفضل السبل التي يمكن للمواصفات القياسية الدولية من خلالها ضمان السلامة، والتشغيل البيني، والاستدامة، والمسؤولية في استخدامه.
التوجه الاستراتيجي الخليجي في مجال الذكاء الاصطناعي
تشهد دول مجلس التعاون تحولًا استراتيجياً متسارعاً نحو تبني الذكاء الاصطناعي كركيزة رئيسة للتنويع الاقتصادي، حيث تستثمر مليارات الدولارات في البنية الرقمية ومراكز البيانات والشراكات التقنية، بهدف بناء اقتصاد معرفي قائم على البيانات يمكن أن يضيف عشرات المليارات للناتج المحلي خلال السنوات القادمة.
وتعد المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة في مقدمة الدول الخليجية ضمن فئة الدول المتنافسة بقوة في الذكاء الاصطناعي (AI Contenders) بفضل استراتيجيات وطنية واضحة، واستثمارات ضخمة في القدرات البشرية والبنى التقنية والبحث والتطوير، مع توقعات بانتقالهما إلى مصاف الدول العالمية الرائدة خلال العقد المقبل. وقد سجلت دولة الإمارات العربية المتحدة والمملكة العربية السعودية، حضوراً لافتاً في مؤشر “ستانفورد” للذكاء الاصطناعي لعام 2025 – حيث احتلت الإمارات المركز الثاني واحتلت السعودية المركز الثالث عالمياً في نماذج الذكاء الاصطناعي. كما حققت السعودية المركز الخامس عالميًا والأولى عربيًا من حيث نمو قطاع الذكاء الاصطناعي، وفقًا للمؤشر العالمي للذكاء الاصطناعي 2025.
وفي السياق ذاته، تعمل دولة قطر ودولة الكويت ومملكة البحرين وسلطنة عُمان على تطوير رؤى وطنية وبرامج قطاعية تستهدف تعزيز البنية التحتية الرقمية، وتوسيع استخدامات البيانات والذكاء الاصطناعي في الخدمات الحكومية والقطاعات الاقتصادية الرئيسة، وبناء بيئات تشريعية وتنظيمية داعمة للابتكار، مع خطوات متدرجة نحو إطلاق شركات وطنية متخصصة للذكاء الاصطناعي (مثل شركة «كاي – “Qai” القطرية)، وإعداد استراتيجيات وطنية متكاملة للذكاء الاصطناعي أو تحديث تلك الموجودة.
وبصورة عامة، تعكس هذه الجهود توجهًا خليجيا مشتركاً نحو توظيف الذكاء الاصطناعي كأداة للنمو والتنمية المستدامة، مع التركيز على بناء بيئات رقمية آمنة، وتمكين الكفاءات الوطنية، وتعزيز الشراكات الاستثمارية الاستراتيجية بما يؤسس لتطوير حلول مبتكرة وواعدة في مختلف القطاعات الحيوية مثل الصحة والتعليم والطاقة والتعدين والنقل.
التقييس الخليجي… والذكاء الاصطناعي، فرصة استراتيجية لا يمكن تفويتها
مع تزايد دور الذكاء الاصطناعي في الاقتصاد العالمي، يصبح التناغم بين هذه الاستراتيجيات الخليجية من جهة، ومنظومة التقييس الخليجي من جهة أخرى، عنصرا حيويا لتعزيز الحضور الخليجي في تشكيل التقييس الإقليمي والدولي المستقبلي.
تضع هيئة التقييس الخليجية الذكاء الاصطناعي في صميم توجهها الاستراتيجي 2026-2030م، باعتباره محركاً أساسياً لرفع كفاءة التقييس وتعزيز سلامة وجودة المنتجات في السوق الخليجية المشتركة، وتمكين الابتكار في أنشطة التقييس، وتحسين تجربة المستفيدين، وتطوير عمليات الهيئة بشكل أكثر مرونة وفعالية. ويأتي ذلك من خلال الاستثمار في البنية التحتية الرقمية، والتوسع في أتمتة الخدمات والعمليات، وتطوير حلول ذكية تدعم الصناعات الخليجية، إضافة إلى تعزيز قدرات الربط التقني مع الجهات الوطنية. كما تعكس الخطة اهتماماً واضحاً بتطبيقات الذكاء الاصطناعي في رفع مستوى الابتكار داخل منظومة التقييس، وفي تمكين الكفاءات الخليجية، وتطوير بيئة معرفية تدعم إعداد المواصفات واللوائح الفنية وفق أفضل الممارسات الدولية.
وانطلاقاً من هذه الرؤية الاستراتيجية، تسعى هيئة التقييس الخليجية إلى تطوير وتبني حلول مبتكرة تسهل الوصول إلى الخدمات بكفاءة وموثوقية، وتعزز أمن المعلومات عبر تطبيق ممارسات الأمن السيبراني المتقدمة، إضافة إلى توظيف تقنيات الذكاء الاصطناعي لرفع جودة العمليات وتحسين كفاءتها ودعم عملية اتخاذ القرار المبني على البيانات، تؤسس فيه الهيئة لمرحلة جديدة يصبح فيها الذكاء الاصطناعي عنصراً محورياً في بناء منظومة تقييس خليجية فعالة، وأكثر قدرة على الاستجابة لمتطلبات المستقبل ودعم تنافسية الصناعات الوطنية في الأسواق الإقليمية والعالمي؛ بهدف تمكين تبني تقنيات الذكاء الاصطناعي بطريقة آمنة وفعالة، عبر مواءمة المواصفات القياسية الدولية ذات العلاقة بالذكاء الاصطناعي، ودعم التشريعات الذكية في الدول الأعضاء، وبرامج بناء القدرات في مجال تقييس الذكاء الاصطناعي، وتطوير برامج تقييم المطابقة للمنتجات والخدمات الذكية، ودعم مبادرات المدن الذكية والطاقة المتجددة، والاستدامة، والسيارات الكهربائية، وغيرها من المجالات.
كما شكلت الهيئة عددا من اللجان الفنية الخليجية، بعضوية المختصين بالهيئة والدول الأعضاء، أهمها: اللجنة الفنية الخليجية لمواصفات المعلومات وتقنية المعلومات، واللجنة الفنية الفرعية الخليجية لمواصفات البيانات والذكاء الاصطناعي، ومجموعة عمل التحول الرقمي.
كيف سيبدو مستقبل التقييس مع الذكاء الاصطناعي؟
يتجه مستقبل التقييس نحو تحول جذري يعكس طبيعة الذكاء الاصطناعي المتغيرة، حيث ستصبح المواصفات أكثر تكيفاً وديناميكية بدلاً من ثباتها التقليدي؛ فالمواصفات ستُحدَّث تلقائياً اعتماداً على البيانات الحقيقية وسلوك الأنظمة بعد الإطلاق. وفي الوقت ذاته، سيتحول تقييم المطابقة إلى منظومات ذكية تعتمد على الفحص الآلي، المختبرات الروبوتية، التتبع الرقمي لحركة المنتج، واستخدام نماذج متقدمة لمحاكاة الفشل قبل وقوعه، مما يرفع دقة القياس ويقلل مخاطر المنتجات. ومع هذه النقلة، ظهر مفهوم “المواصفة الرقمي” Digital Standard أو “المواصفة الذكية Smart Standards” الذي يتيح تضمين المواصفات القياسية مباشرة داخل البرمجيات والأنظمة بدلاً من وثائق (PDF) ثابتة، لتصبح المواصفة ذاتها جزءًا من بنية النظام. كما سيتطور دور الخبراء، لينتقل من كتابة نص المواصفة إلى تصميم أطر الحوكمة الخوارزمية التي تنظم عمل الأنظمة الذكية وتحدد مسؤولياتها وضوابطها. وفي ظل هذا المشهد الجديد، ستشتد المنافسة بين الدول والمنظمات الدولية لقيادة صياغة مواصفات ومعايير الذكاء الاصطناعي، إذ ستصبح المواصفات عنصراً حاسماً من عناصر القوة الاقتصادية والتقنية في العالم.
“ستتغير منهجية العمل إعداد المواصفات من “وثيقة تُكتب خلال 3 سنوات” إلى “مواصفة تُحدث باستمرار”. تمامًا مثل تحديثات البرمجيات!
وتكشف وثيقة الاتحاد الدولي للاتصالات” AI Standards for Global Impact: From Governance to Action” (ITU) لعام 2025م أن التقييس يمر حاليًا بأكبر تحول في تاريخه، مدفوعاً بالانتشار السريع للذكاء الاصطناعي. فقد أصبح تطوير المواصفات القياسية الدولية عاملاً حاسماً لضمان الشفافية، والموثوقية، والأمن، وحماية المستخدم في الأنظمة الذكية. حيث تعمل منظمات التقييس العالمية (ISO, IEC, ITU) على إعداد منظومة شاملة لمواصفات الذكاء الاصطناعي تشمل: أمن الخوارزميات وحوكمة البيانات، وتقييم النماذج الأساسية، ومكافحة التزييف العميق، والمواصفات الخاصة بالأنظمة الذكية المتجسدة (مثل الروبوتات والمركبات ذاتية القيادة).
وتبرز مبادرة (AMAS ) (The AI and Multimedia Authenticity Standards Collaboration) كمشروع دولي رئيسي لتعزيز أصالة الوسائط وحماية المجتمعات من المحتوى المزيف. كما يشبًّه التقرير المرحلة الحالية بما حدث عند تأسيس نموذج Open systems interconnection (OSI)) في الاتصالات، حيث يُعاد اليوم بناء “طبقات” جديدة للتقييس في عصر الذكاء الاصطناعي. وتخلص الوثيقة إلى أن المواصفات القياسية أصبحت حجر الأساس لبناء الثقة ودعم الابتكار، وأن الدول والجهات التي تقود صياغة مواصفات الذكاء الاصطناعي ستكون الأكثر قدرة على التأثير في تشكيل اقتصاد المستقبل.
من ناحية أخرى، هناك تركيز متزايد على جانب الاستدامة البيئية ضمن مواصفات الذكاء الاصطناعي، حيث صدر تقرير بعنوان Standardization for AI Environmental Sustainability)) يحتوي مبادرات لضبط تأثير الذكاء الاصطناعي على الطاقة والموارد الطبيعية بهدف تعزيز كفاءة الموارد والممارسات البيئية. هذا التركيز على الاستدامة والبيئة يدل على أن التقييس ليس فقط للوظيفة الصناعية والتقنية، بل أصبح جزءًا من رؤية شاملة للاستدامة والابتكار المسؤول.
كل ذلك يشير إلى أن الدول والجهات التي تتحرك مبكراً للمشاركة الفاعلة في صياغة مواصفات الذكاء الاصطناعي، ستكون الأقدر على التأثير في هيكل اقتصاد المستقبل، وضمان مكانة متقدمة في سلاسل القيمة العالمية الجديدة.
هل الذكاء الاصطناعي تهديد أم فرصة للتقييس؟
الإجابة: الاثنان معًا!
الذكاء الاصطناعي يمثل اليوم مفترق طرق حقيقياً لمنظومات التقييس حول العالم. فهو تهديد واضح لجهات التقييس التي تبقى أسيرة الأساليب التقليدية البطيئة في التحديث والمترددة في استيعاب التقنيات الحديثة؛ لأن الذكاء الاصطناعي يحرك السوق والصناعة أسرع بكثير مما تتحرك عمليات صياغة المواصفات واللوائح. فالتباطؤ في التفاعل مع هذا التحول قد يجعل بعض المنظومات أقل قدرة على التأثير، ويحول دور التقييس من صناعة المستقبل إلى مجرد ملاحقته، وبذلك يصبح خطر “فجوة المواصفات” واقعاً يضر بالاقتصاد، وبثقة المستهلك، وبقدرة الدول على المنافسة.
“منظومة الذكاء الاصطناعي لن يغير فقط المنتجات والقطاعات… بل سيغيّر طريقة صياغة المواصفات نفسها، وطريقة اعتمادها، وآليات التحقق منها، وطبيعة المنظمات المسؤولة عنها”.
لكن في المقابل، يُعد الذكاء الاصطناعي فرصة تاريخية لإعادة بناء وهندرة وتطوير منظومة التقييس والبنية التحتية للجودة، إذا ما تم استيعابه بوعي واستثماره كأداة لتسريع العمليات ورفع الكفاءة وتحسين جودة المخرجات ودعم الاقتصاد.
فهو يفتح الباب أمام حقبة جديدة من:
- المواصفات التكيفية الديناميكية التي تتحدث وفق البيانات الحقيقية؛
- المنصات الذكية التي تدعم عمليات المواصفات والاعتماد وإدارة المختبرات وجهات منح الشهادات؛
- المختبرات الرقمية المتقدمة القادرة على محاكاة الفشل قبل وقوعه ورفع دقة الفحص والاختبار والمعايرة؛
- أنظمة رقابية وبرامج مسح أسواق تربط بين نتائج الفحص والتقييم والوضع الفعلي للمنتجات في السوق، مما يبني ثقة غير مسبوقة بين المستهلك والسوق.
- عملية التدقيق والتحقق ، وتحسين كفاءة وخفض التكاليف ، وتقليل عبء العمل ، وتقديم نتائج عملية التدقيق في الوقت المناسب.
كما يمكّن الذكاء الاصطناعي الجهات المتقدمة في منظومة التقييس والاعتماد والمترولوجيا من قيادة صياغة المواصفات العالمية للتقنيات الناشئة، مما يعزز قوتها التنظيمية وقدرتها على دعم الاقتصاد الرقمي وتنافسية المنتجات والخدمات في الأسواق الإقليمية والدولية.
“يمكن القول أن منظومة التقييس العالمية مقبلة على أكبر تحول في تاريخها منذ 100 عام.
فالذكاء الاصطناعي لن يغير فقط المنتجات والقطاعات… بل سيغير طريقة صياغة المواصفات نفسها، وطريقة اعتمادها، وآليات التحقق من المطابقة، وطبيعة المنظمات المسؤولة عنها. ولأول مرة، يصبح التقييس نفسه جزءًا من الثورة التكنولوجية، وليس مجرد إطار يحاول اللحاق بها أو يتكيف معها؟
كلمة أخيرة: التقييس الواعي … مفتاح السيادة الاقتصادية والتقنية
نحن أمام لحظة تحول مفصلية؛ لحظة تعيد رسم خريطة اللاعبين الدوليين في التقييس. فالذكاء الاصطناعي لن ينتظر أحدًا؛ وفي عصر يتشكل فيه العالم بخيوط من البيانات والخوارزميات، يصبح التقييس الواعي والمسؤول أحد أهم مفاتيح السيادة الاقتصادية والتقنية، وأداة لضمان أن تظل التقنيات في خدمة الإنسان لا العكس.
تظهر زيادة استهلاك الكهرباء لدى مايكروسوفت بين 2020م و2023م وارتفاع انبعاثات الكربون بأكثر من 40% حجم الأثر البيئي المتصاعد للذكاء الاصطناعي. وفي ظل هذا التوسع (تقرير الاستدامة السنوي، مايو 2024م)، يصبح التقييس عنصراً حاسماً لضبط المشهد عبر وضع مواصفات تواكب هذا التطور المذهل لقياس الانبعاثات، وتحسين كفاءة الطاقة، وتنظيم تشغيل مراكز البيانات. ورغم اتجاه الشركات العالمية، مثل مايكروسوفت وجوجل وأمازون وميتا، للاستثمار في مصادر طاقة أنظف كالحلول النووية، فإن المواصفات الفنية المتخصصة تبقى الأداة الرئيسة لضمان استدامة البنية الرقمية والحد من بصمة الذكاء الاصطناعي على البيئة والإنسان. وهي الزاوية التي يغض الجميع أبصارهم عنا في ظل هذا الإبهار المتصاعد للذكاء الصناعي، ولتكون هذه الثورة الرقمية أداة مساعدة وميسرة تختصر الوقت والجهد والموارد، دون أن تصبح غاية تقود نحو المجهول!
والحقيقة الواضحة اليوم هي أن من يملك القدرة على كتابة مواصفات الذكاء الاصطناعي… يملك القدرة على تشكيل اقتصاد المستقبل. والمستقبل لن يُصنع بمن يكتب أو يتبنى مواصفات أو يشرع لوائح فنية أكثر، بل بأكثرها مواكبة لتطور الأنظمة الذكية التي تتغير كل يوم، وقدرتها على الحفاظ على سلامة المستهلك، وتوجيه الصناعة، وتمكين الاقتصاد.
وفي ضوء هذه المعطيات، يصبح تطوير استراتيجيات تقييس وطنية للذكاء الاصطناعي، وتحسين البنية التحتية الرقمية، وتعزيز مشاركة البيانات، وبناء مهارات وطنية في العلوم والهندسة والحوسبة السحابية، إضافة إلى بناء القدرات والتعليم المستمر والبحث العلمي، عنصراً حاسماً في الاستفادة من هذه الثورة التقنية، وأمراً استراتيجياً وحتمياً لهيئات ومنظمات التقييس.
*رئيس قسم التعاون الدولي – هيئة التقييس الخليجية
دكتوراه في سيكولوجيا التطوير القيادي والمؤسسي
